محظيات شهريار طويل العمر

محظيات شهريار طويل العمر

11 يوليو 2019
+ الخط -
(1)
ما يجري في بلادنا العربية اليوم يحتم علينا إعادة بناء سلم أولوياتنا، لسنواتٍ خلت، باعتنا السلطات كذبة كبرى، تقول إن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الكبرى، ولم تكد هذه العبارة تخلو من مقرّرات وتوصيات مؤتمر عربي معتبر. وفي الأثناء كانت السلطات نفسها تغذي "إسرائيل" بأسباب الحياة، واكتشف الجمهور العربي أن الماء كان يسبح من تحت السجادة التي ينام عليها، وليته كان ماءً نظيفا ظاهرا، بل كان عفنا مشبعا بالخيانة والتآمر والخذلان. ولم تصح الجماهير المنتظرة على بوابات الفرج إلا والمؤامرة الكبرى قد أتت على كل أحلامها بالرخاء والحرية والخلاص والاستقلال. لهذا تحتم عليها أن تعيد التفكير بكل المسلمات التي أحرقت كل سنوات الانتظار، لأن الاستبداد، ولا شيء غيره، هو أول أولوياتها، فلولاه لما نامت نخبها السياسية والدينية والفكرية في سرير السلطة، لتنجب سفاحا مخلوقاتٍ مشوهة دميمة الخَلق والخُلق، أحكمت قبضاتها على رقاب العباد والبلاد.
(2)
ما يغيب عن فريقيْ تقاذف التهم، سواء من يُسمّون المحافظين أو اليمينيين، أو "الإسلاميين"، من جهة، وبين من يسمون أنفسهم من أهل اليسار أو العلمانيين أو "المتفتحة" عقولهم على اتساع فتحة قميص سيدة متحرّرة، أن الاستبداد السياسي نفسه، المسؤول عن كل شيء، حينا يقرب التيار الإسلامي لضرب اليسار، وحينا يفعل العكس، وإذا ما هدأت الأمور، افتعل ما يوجب تشديد القبضة وخنق الشعب، والشعب راضٍ، ومبسوط، باعتبار أن مصادرة حريته واجب وطني.
الاستبداد يشبه الرجل المزواج، ينام كل ليلة مع "محظية" من محظياته، حتى إذا ملّ من إحداهن أحالها إلى التقاعد، أو فصلها من الخدمة نهائيا، والمشكل هنا أن المشهد بحاجة لدهاء شهرزاد، للانتقام لبنات "جنسها" من شهريار، ونزواته.
(3)
سبب التوحش والإسراف في القتل، وجريان الدم في بلادنا، ليس ابن تيمية، وفتاواه، ولا
 مناهجنا المدرسية، ولا مذهب ابن حنبل، ولا حمّى التكفير، وإهدار دم "الآخر" منا، سبب هذا الذي نراه، كلمة واحدة فقط: الاستبداد، وما يولد من قهر وتعذيب وتغييب ومظالم، واحتلال همجي، وعقوبات جماعية وسجون سرية وعلنية، وهدر للإنسانية، وقتل بطيء ومستعجل، وهتك للأعراض.
ابحثوا، يا رفاق، في سجلات القتلة الكبار، وتآمرات صُنّاع الموت المُعولم، وزُرّاع القهر، ودفيئات الحقد، عن كيفية تشويه خلق الله، وتخريب وعيهم، وتحويلهم إلى مسوخٍ متوحشة، متعطشة للبطش، والقتل، قبل أن توجهوا سهامكم الطائشة إلى نحوركم.
(4)
نحن اليوم في مرحلة إعادة ترتيب كل شيء، والنظر في كل المسلمات الوطنية والسياسية والقومية، ولن نقول الدينية، إلا بالقدر الذي لا يمسّ عقيدتنا، والمعلوم من الدين بالضرورة، حسب التعبير الشرعي، ولا يعني هذا أن طبقة "الكهنوت الإسلامي" (أو الاستبداد الديني بالأحرى) بمنأىً عن إعادة النظر والتقويم الجديد، فهي صنو الاستبداد السياسي، ومحظيته الأثيرة، ولا تقوم إمبراطورية الظلم والعسف والقهر بدون قيام التحالف الشيطاني بين الاستبدادين، السياسي والديني، ولم تغب هذه الحقيقة الكبرى عن أحد أهم المفكرين العرب في العصر الحديث، عبد الرحمن الكواكبي، وطالما كتب عنها الكتاب والمفكّرون، ولم تأخذ مكانتها التي تليق بها في أجندة أهل التغيير ودعاته، فقد تاهت بوصلة غالبيتهم الساحقة، وهي تؤشر على الجهة الخاطئة للخلاص، عن سبق إصرار وتآمر، أو بسبب ضبابية الرؤية، واختلاط
الأولويات. حتى الربيع العربي الذي عوّلنا عليه أن ينقلنا من حال الاستبداد إلى تخوم الحرية تمت سرقته بأدوات الثورة المضادة التي بقيت بمنأى عن الزلزلة والتفكيك، فلا يكفي أن تخرج الجماهير للشارع مطالبة بـ "رأس النظام"، فيما جسمه وجذوره تُحكم السيطرة على مفاصل الحياة، والموت أيضا. وأخطر ما وقع في هذا المشهد بحث دعاة الإصلاح وقوّاده في منظومة "الحلال والحرام"، وإخضاع حركاتهم وسكناتهم لفتاوى المؤسسة الدينية التقليدية التي هي جزءٌ من منظمة الاستبداد، وحليفة الاستبداد السياسي الأثيرة، وإحدى أذرعه للتحكّم برقاب البشر.
يقول الكواكبي: "تضافرت آراء أكثر العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني، والبعض يقول: إنْ لم يكنْ هناك توليد فهما أخوان؛ أبوهما التَّغلب وأمّهما الرّياسة، أو هما صنوان قويّان؛ بينهما رابطة الحاجة على التّعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنَّهما حاكمان؛ أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب". إلى أن يقول: "الحاصل أنَّ كل المدقِّقين السّياسيين يرون أنَّ السّياسة والدّين يمشيان متكاتفَيْن، ويعتبرون أنَّ إصلاح الدّين هو أسهل وأقوى وأقرب طريق للإصلاح السّياسي".
ومن هنا نبدأ.. فليس لشهريار طويل العمر أن يعيث فسادا في الأرض، لو لم يجد محظياتٍ بلا عدد، يطبطبن على شهواته، ويستجبن لساديته ونزواته، ويقنن ويؤصلن استبداده لضمان ديمومته بلا نهاية، باعتباره ولي الأمر الذي لا يجوز "شرعا!" الخروج عليه، حتى ولو زنى بحرائر أمته في بثٍّ مباشر على الهواء، كما أفتى "نطيحة" من مؤسسة الفساد الديني.