جمهورية "كأنّ" اللبنانية

جمهورية "كأنّ" اللبنانية

11 يوليو 2019
+ الخط -
بالإذن من الروائي المصري، علاء الأسواني، صاحب "جمهورية كأنّ"، الممنوعة في مصر. 
الجمهورية اللبنانية كأنها جمهورية. كأن رئيسها ونوابها ووزاءها، صعدوا إلى القمة التي همْ عليها الآن، بمجرد ترشّحهم "الطبيعي"، وبقوانين انتخابية تحسدنا عليها سويسرا ("لبنان سويسرا الشرق"!). كأنّ آخر الصاعدين إلى رئاسة هذه الجمهورية لم يعطّل المؤسسات، لم يخرق القوانين، لم يبتز، لم يستقوِ بموازين خارجية، لم يهدّد بتدمير الهيكل على رؤوسنا كلنا، إذا لم يتحقق حلمه بالرئاسة، هو الساعي إليه منذ أكثر من ثلاثين سنة. وكأنّ يوم انتخابه هو يوم انتخاب صهره رئيسا للجمهورية. كأنّ البرلمان ورئيسَه، والوزراء ورئيسهم، لم يحسبوا، وقت صياغتهم قوانين الانتخاب والتأليف الحكومي، إلا مصلحة المواطنين والبلاد والمؤسسات والدولة، خصوصاً الدولة. لم يطرِّزوا هذه القوانين بقرارٍ من حزب الله، صاحب مئات الصواريخ والإنجازات الدموية في سورية: بحسابات الدكانين المذهبية التي تؤمِّن هذا، تسقط ذاك، تقصقص أجنحة، تحجّم... كأنّ "الحصص" غنيمة الدولة المفلسة، من وزيرٍ إلى نائب إلى مدير عام إلى أصغر موظف في هذه الدولة.. وكأنّ هذه الحصص التي تتعطل البلاد بانتظار "بلورتها" هي تعبيرٌ أصيلٌ عن الدولة والمؤسسات والقوانين.
وكأنّ بشار الأسد انتصر فعلاً في سورية، وصارت وكالة حزب الله عن مخابراته تجسيدا لهذا الانتصار، فعاث هذا الحزب تخريباً، وتوكيلاً لحلفائه بأن افعلوا ما شئتم بهذه الجمهورية، طالما أن مقاومتي لم تهتز، طالما أنني انتصرتُ في سورية، وبقيتْ الصواريخ بحوزتي. كأنّ "العيش المشترك" بين اللبنانيين، زينة، مزهرية، يضعونها فوق مكاتبهم، منعاً لعيون الحاسد من أن يسود. كأنّ حليف حزب الله القوي، والجالس على عرش رئاسة الجمهورية، هو وكل أفراد عائلته.. كأنّ هذا الحليف أُريد له أن يفهم هذا الانتصار أكثر مما ينبغي، فأخذ الصهر - الوزير وريثه، بزمام البلاد كلها وراح يعبث بها، فوق خرابها المتراكم، فصار الصهر الوريث فوق القانون والمؤسسات والاستقرار الهشّ، أصلاً؛ يتناسى الاتفاق الذي أنهى الحرب، لكنه يُمعن في النبش في جروحها العميقة.
وكأنه ليس فاشلاً، فاسداً، عقيماً، هذا الصهر - الوزير. كأنه لم يبتلع أموال الكهرباء، وكأنّ 
البنك الدولي، وغيره من مؤسساتٍ ماليةٍ معولمة، لم تنبِّه إلى أن قطاع الكهرباء بالذات، الذي يسيطر عليه هذا الوريث منذ عشر سنوات، هو القطاع الذي أعطته الأولوية "لإصلاحه"، قبل غيره من القطاعات، نظرا إلى حجم الفساد الذي يهدر أموال الخزينة؛ وذلك شرطا لمساعدة لبنان على النهوض من إفلاسه. كأنه ليس فاسداً من بين الفاسدين، هذا الصهر - الوزير، فقط لأنه جديد على الفساد، ولأنه ينطق بكلماتٍ من قبيل "محاربة الفساد".
كأنه وزير "التنمية المحلية"، هذا الصهر - الوزير، لا وزير الخارجية. ينسى اللبنانيين العائدين من كازاخستان الذين تعرّضوا للضرب والاحتجاز والإهانات قبل أن يُطردوا. أو عذابات اللبنانيين في بلاد "الانتشار" التي يعتز هو نفسه بها. ويشحذ أصواتاً من بين من ينفِّعهم في أعمالهم ويرزقهم من أموال الجمهورية. لا! هو وزير تنمية محلية، يزور هذه المناطق بمواكباتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ ضخمة، وعشرات الرانجات والملاّلات.. لكي يعالج المحارق وتآكل الجبال، ومياه الريّ، والكهرباء طبعاً، والمشاريع الصغيرة، وحتى التوظيف في الإدارة العامة... كلا! هو فقط "كأنَّه".
وهذا الصنف من "الكأنّ" لا يستوجب الثرثرة الكثيرة، بل الصمت المطبق. نوع من السكوت عن "الكأنّ"، والخوض في قيم المؤسسات والدولة والقانون، كأنّ فعلاً، هو تحته. لا وجود لـ"كأنّ" في قاموسه، ولا لحظة واحدة من الشك. يفعل فعلته، وبعد ذلك، وبكل سماجة، بكل ثقل الظل الممكن، يتغنّى بالقانون والمؤسسات، كأنه واحدٌ من رجالات الدولة الحقيقيين، لا صنيعة مليشيا، أو متشبّها بالمليشيات. فيخطب في الجمع القليل: "معركتنا اليوم هي بين مفهومين: مفهوم الدولة ومفهوم التسلّط، وما بين نهجين، نهج المؤسسات ونهج الزعرنات" (من زعران). أو يصدر عن أحد وزراء رعاته، أي حزب الله، أي أقوى مليشيا في الشرق الأوسط، ما يحول "الكأنّ" إلى مادة شعرية سوريالية، إذ يستنكر: "ما حصل في قبرشمون كبير وخطير جداً، وما يهمنا هو الاستقرار. والعودة إلى الأعمال المليشياوية تشكل خرقا للتوافق اللبناني". وفي الكلمة نفسها، يدعو الوزير الحزبلاهي إلى "البدء بالتحقيقات لتوقيف الجناة فوراً، لأن ما حصل غير مقبول ومُدان". وكأنّ هناك فعلا تحقيقات قضائية في لبنان، كأنّ الغطاءات على الخارجين عن القانون ليست من بنات العهد المليشياوي الوفيات. كأنّ الوريث لم يضغط منذ يومين فقط لمنع محاسبة قاض فاسد "محسوبٍ عليه".. فيستغرب الوريث وحلفاؤه، كأننا في ظل دولة قانون انتخبت بالقوانين العادلة كل هذا الحشد من المتحاصصين، المستقْلتين من أجل دور يحفظ نفوذهم، يقوّيه، يحصل ما تعشقه الجماهير الطائفية، أي القوة؛ مهما كان لونها.
هذا نوعٌ أول من الـ"كأنّ" الذي يسهل إضفاء مزيد من اللامعنى على الحياة السياسية. يقابله
 "كأنّ" آخر، قوامُه السكوت. إذ كيف يمكن إلقاء الخطب حول التواطؤ الحاصل بين حزب الله والصهر - الوزير؟ والذي يمنع بموجبه منعاً تاماً غزو "الكانتون" الشيعي، الواقع تحت سيطرة حزب الله، بهذا القدر من القوة الأمنية والخطاب الجارح؟ الموقظ لأبغض غرائز الحرب الأهلية؟ أو كيف يمكن شرح كل ما فعله الوريث، بالشراكة، "الصامتة" أيضاً من حزب الله؟ كيف يمكن فهم "قوة" الوريث - الصهر، من دون إيراد حزب الله؛ الحزب الذي تضايقه النملة في "توجهاته الإقليمية"، والذي يرمي أمينه العام حِمَم الوعيد على من يتجرّأ بكذا وكيت. تجده، بعدما زكّى عمّه إلى رئاسة الجمهورية، وعطل البلاد والعباد كُرمى عيونه، يعطيه "كارت بلانش"؟ لا يمكن تجاوز هذا الصمت إلا بـ"الكأنّ". كأنّك لا تسأل، ليس في عقلك مخ، إنما مادّةٌ لزجةٌ تغزوها الصرارير. كأنك مجرد نبْتة في البرية. لا ترى الخرابة أمام ناظريك، لا تتنشّق الهواء السام المنبعث من منابع الفساد والفلتان والإهمال.. كأنّك في جمهورية حقيقية. وإذا لم ترض بهذا "الكأنّ"، هذا النوع من "الكأنّ"، فارحل عن أرض النفاق، وانسَ الجمهورية الكاذبة المتكاذبة.