لو كان السرطان رجلاً

لو كان السرطان رجلاً

10 يونيو 2019

(محمد العامري)

+ الخط -
أقرأ أمجد ناصر في "قناع المحارب.. يوميات مريض بالسرطان" (العربي الجديد، 27/5/2019)، يقول "أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى/ والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب/ ما أنت؟/ ما مشكلتك معي/ إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك/ تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد/ وجهاً لوجه/ لسوف ألقنك مواثيق الرجال/ كما لقنّتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة/ أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً".
كنتُ وأختي نستسيغ، منذ طفولتنا، أغاني فايزة أحمد، وحين توفيت في سبتمبر/ أيلول عام 1983، شاهدنا القناة العامة في التلفزيون المصري تعلن رحيلها. حزنّا كثيراً، وسألتُ أختي: لم ماتت؟ قالت، وهي التي تكبرني بعام: "ألم تسمع؟ قالوا إنها أصيبت بسرطان الثدي". سألتها: وما هذا؟ قالت: "لا أعرف". كانت تلك ربما المرة الأولى التي تحتفظ فيها ذاكرتي بمصطلح "السرطان". حين كبرنا، حَمَلت أختي سرطانها لتغادر سورية بحثاً عن حياةٍ أكثر طمأنينة، لها ولزوجها وطفلهما الوحيد، وفرص علاج أفضل. في غربتها، عاودها المرض، بعد أن ظننَّا أنها تماثلت للشفاء، منتشراً خارج المنطقة المصابة. قبل شهر من موتها، تراجعت حالتها إلى مرحلةٍ حرجة، وفي محاولةٍ لطمأنتي، وأنا البعيد القريب، أخبرتني أن نتائج الواسم السرطاني (CA 15-3) يشير إلى الاستقرار بين 800 و900. لم أدرك حينها كنه تلك الأرقام وما تعنيه. سألتها: "يعني ضمن حدود الطبيعي". ضحكت ضحكتها المعهودة التي لم تفارقها حتى لحظاتها الأخيرة، وقالت: "أي طبيعي، عليك أن تنسى أمر الحد الطبيعي الذي يجب أن يبقى أقل من 30 U/ مل". أدركت حينها أن رحيلها بات وشيكاً، وهي التي لم تمنحني من قبل أي شعورٍ أني في حضرة "ميّت مؤجل". حينها تمنّيت لو كان السرطان 
رجلا، وقتلته.
كنت أتحاشى الخوض في الحديث عن المرض، وكانت ذاكرتي مضادّة لأسماء الأدوية، وأُصاب بالنسيان اللاشعوري لأسماء الأطباء الذين قد اضطر إلى تلقّي العلاج على أيديهم بعد اشتداد المرض. أما رائحة المشافي، فتجعلني أشعر بالغثيان. ربما كان هروبي المتعمّد منفضاءات المرض نوعاً من التفكير السحري القابع في عقلي الباطن، والمستمدّ من لاشعور جمعي، يتمثل في الاعتقاد بقدرةٍ على الخلق تكمن في الكلمة التي ما إن يتم التلفظ بها حتى تستحضر مدلولها ("في البدء كانت الكلمة"، "كن فيكون"، "فتح الإله فاه فكان العالم")، فيكفي أن ينطق الساحر كلماتٍ سحرية، حتى يخرج إلى الواقع ما كان في العدم. ففي الثقافتين الشعبيتين لبلاد الشام، ومصر، يتحاشى الناس لفظ مفردة "سرطان"، ويشيرون إليه بقولهم "هداك المرض"، أو "إلّي ما يتسماش"، فذكْرُ ما هو شر يستحضر الشر (أحد الأصدقاء المصريين أخبرني، وأنا بصدد إعداد هذه السطور، أن أمه لا تذكر اسم عبد الفتاح السيسي، بل تشير إليه بقولها: إلّي ما يتسماش).
مع مرض أختي، اضطررت إلى كسر هذه القاعدة اللاشعورية قدر الإمكان، لأعلم أن السرطان هو خلايا شاذّة من الجسم، تتكاثر من دون ضوابط على حساب الخلايا المحيطة بها، وينتهي بها المطاف أن تتحوّل إلى كتلة كبيرة تستنزف قوى الجسم، وتعوقه عن أداء وظائفه. خلايا من الورم تنتقل إلى مكان آخر، عبر مجرى الدم أو اللمف، وتتكاثر فيه، وتتحول إلى ورم جديد. ترسل الخلايا السرطانية إشارة بتكوين أوعية دموية جديدة لتغذيتها، تكون بشكلها قريبةً من شكل مخالب السرطان.
السرطان اليوم أكثر الأمراض فتكاً بالبشرية، فبينما يموت سنوياً ستة ملايين شخص بالسكتات الدماغية، ويحصد عوز المناعة المكتسب أرواح 1.5 مليون منهم، يقضي السرطان على 7.5 ملايين إنسان كل عام. هل حقا "يموت المرء كما يموت أهله" كما يذهب أمجد ناصر؟ التوجه الطبي العام يعزو تحوّل الخلايا السليمة إلى خلايا سرطانية، إلى حدوث تغييراتٍ في المادة الجينية المورثة بفعل جملة عوامل مسرطنة، مثل التدخين، أو الأشعة أو مواد كيميائية أو أمراض مُعدية (كالإصابة بالفيروسات). وهناك أيضا عوامل مشجعة على حدوث السرطان،
 مثل حدوث خطأ عشوائي أو طفرة في نسخة الحمض النووي (DNA) عند انقسام الخلية، أو بسبب توريث هذا الخطأ أو الطفرة من الخلية الأم.
فجأة يداهمنا هذا المرض، وكأن له ديناً يستردّه من الذين يمرّون في هذه الدنيا "كما تمر أنفاس الرّعاة في قصب الناي"، وكما سلب من ناصر أمه وحبيبته الأولى، "والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب"، يسلب منا من نحب؛ أهلنا، أصدقاءنا، بسطاءنا ومشاهيرنا، الجميع سواسيةٌ أمام وقاحة هذا المرض، ووجهه السافر، الذي يأتي من دون استئذان، محوّلا حياة مرضاه، وحياة من حولهم، إلى جحيم بين أركان المستشفيات، وغرف جلسات العلاج الكيماوي، وعمليات الاستئصال، وغيرها من محاولاتٍ طبيةٍ نادرا ما تستطيع قهر هذا الوحش القاتل، لتحول دون هزيمةٍ في معركةٍ لم يختر الإنسان أن يكون فارساً فيها.
يقال إن أهم ما للمريض في مواجهة سرطانه، الغذاء المناسب وإرادة الحياة، لذا كنت أكرّر على مسامع أختي في مهجرها، كلمات سعد الله ونوس "إننا محكومون بالأمل"، وأذكّرها، وهي العاشقة للمسرح، ولها فيه بعض تجارب لم تكتمل، أن ونّوس أنجز أهم أعماله في أثناء مرضه. في مرّة أخيرة، أكملت كلام ونّوس "ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ"، سكتتْ قليلا وتابعت "موتي لن يقدّم أو يؤخر في مجرى التاريخ، وصاحب تلك الكلمات مات بعد أن تسرطن أمله". قلت لها "تباً للتاريخ، فالحياة معك أجمل"، أما في داخلي فتمنّيت لها موتاً بألم أقل.
لم تخش أختي الموت، لكنها أحبت الحياة التي تشبه مرضها "تطرف. لا توسط. مراودة الأقصى"، تماما كالشبه بين مرض أمجد وحياته، صحيح أنها، وهي الفلسطينية السورية، قد يئست من عودةٍ إلى فلسطين، لكنها تمسّكت بحلم سورية الجميلة، وخشيت أن ترحل قبل أن تراها جميلة، تردّد مع الأبنودي "خايف أموت من غير ما أشوف/ تغير الظروف/ تغير الوشوش وتغير الصنوف/ والمحدوفين ورا/ مبتسمين في أول الصفوف/ خايف أموت وتموت معايا الفكرة/ لا ينتصر كل اللي حبيته/ ولا ينهزم كل الي كنت أكره/ اتخيّلوا الحسرة. اتخيّلوا الحسرة!".
ماتت أختي ودفنت بعيداً، وتركت لنا اسمها "يتضخم في الدوائر والمعاملات، ويتكفل بمصيره"، وآمل لأمجد ناصر دوام حضوره؛ دليلنا إلى الطريق الذي يفكّ لنا أسرار الاسم والجسد معاً، رغم "النجوم التي صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني/ وهذه الليالي المرسومة بالفحم".

دلالات

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.