عصياننا المدني: أين الثورة المضادة؟

عصياننا المدني: أين الثورة المضادة؟

10 يونيو 2019
+ الخط -
أحلام السودانيين هي أحلام كل عربي حر، بسيطة ومشروعة وسهلة، وتحقيقها يفيد جميع الأطراف، فقط عودة الجيش إلى ثكناته ورجوع تاجر الجمال إلى بعيره، وإفساح المجال أمام قوى المجتمع الحية لتدير شؤون حياتها على النحو الذي يحقّق إنسانيتها وينهض بأوطانها، كما فعلت شعوب كثيرة على كوكب الأرض.
من هنا، تجاوز العصيان المدني الشامل أمس حدود السودان، وانتقل من المدن السودانية، مثل نسمات الهواء النقي، ليداعب وجوهًا ويرطّب نفوسًا أرهقها الحنين إلى الحرية في مختلف العواصم العربية، ليتحول العصيان المدني إلى أكبر وأوسع تظاهرة عربية صامتة في تاريخ النضال من أجل الكرامة والعدالة.
العدالة، تلك التي وضع لها الفيلسوف أفلاطون تعريفًا موجزًا وعميقًا وبسيطًا في آن، وهو أن يوضع كل شخصٍ في المكان المناسب له، من تعلم الطب يعمل في علاج الناس بالمشافي، ومن درس فنون الحرب يعمل في الجيوش مدافعًا عن البلاد، وليس في الدراما أو السياسة أو مصانع الكعك بالعجوة والجمبري والفراخ المجمدة، ومن يعرف فنون الزراعة والرعي فالعير والبعير والماشية أولى به، وليس مطلوبًا، أو مشروعًا، أن يتولى مؤسسات الحكم والإدارة.
تلك هي العدالة، في تعريفها البسيط للغاية، والتي إن تحققت، عرف المجتمع شيئًا من السلامة العقلية والنفسية، منحته هدوءً ودافعية إلى التقدم والتطور، وإن غابت، يفور المجتمع بالغضب والثورة.
لكن الذي حدث في مصر والسودان، وغيرهما من بلاد العرب المنكوبة بالطغيان، أن العامل في مختبر التحاليل جيئ به ليرتدي ملابس اللواء العسكري، ثم يتم طرحه في المجتمع بوصفه الجنرال العالم المخترع الخبير في علاج الأمراض الفتاكة، بجهاز يعمل بطريقة "الكفتة"، وفي المقابل اعتقلوا عالمًا حقيقيًا، بشهادة كبرى جامعات العالم ومؤسساته البحثية، وسجنوه بعد أن انقلبوا عليه، في مؤامرة تخلى فيها المثقف والسياسي عن دوره التنويري، واشتغل طبالًا وزمارًا ومطيًة لتمكين الحكم العسكري، كما طردوا عالمًا شابًا آخر من مؤسسة الحكم، هو عصام حجّي، لأنه لم يبصم على اختراع جنرال الكفتة الكارثي.
والأمر نفسه، تقريبًا، حدث في السودان، حين ثار الشعب للأسباب ذاتها، فجاءوا له بتاجر للإبل ومنحوه رتبة الفريق العسكري، ووضعوه نائبًا لرئيس المجلس العسكري الحاكم، مؤقتًا، فما كان منه إلا أن رأى الشعب المطالب بحقوقه قطيعًا من العير والبعير السائبة، فأوسعها ضربًا وتقتيلًا وتنكيلًا، حين أطلق قواته على اعتصام الثوار لتحرقهم في خيامهم ليلة العيد، وتلقي بجثثهم في النيل.
في هذا الوضع البائس، لا تحلم الشعوب العربية بأكثر من أبجديات العدالة البسيطة، أن يعود كلٌ إلى مكانه الطبيعي، الجيش إلى ثكناته، وتاجر الإبل إلى مراعيه.. أن تظل الجيوش جيوشًا، بالمفهوم الذي لا يختلف عليه عاقلان في العالم، وتبقى السياسة عملًا مدنيًا، يمارسه المدنيون بمهارات العقل والتفكير، لا بغرائز العضلات وجموع القوة المادية.. وفي ذلك احترام وصون للاثنين معًا، العسكرية والسياسة، فهل هذا كثير؟
أظنّه الحد الأدنى من حقوق أوطان، ومطالب شعوب تحلم بالتطور والانطلاق. ولذلك جاءت رسالة السودان، والشعب العربي كله، أمس، شديدة البلاغة والوضوح، بنجاح العصيان المدني الشامل على نحو غير مسبوق، فبدت المدن السودانية وقد تجمدت فيها الحياة، وخلت من كل حركة، إلا ارتعاشة الحلم بالانعتاق، وأزعم إن العسكريين وتوابعهم والمتحالفين والمتواطئين معهم قد قرأوا مضمون الرسالة جيدًا: لا نريدكم لإدارة حياتنا، نحن أجدر وأقدر على ذلك، فعودوا إلى ثكناتكم، لكم مهامكم ولنا أدورانا، لا نلغيكم ولا نقصيكم أو نحذفكم من المعادلة، بل كل ما نرجوه وسنحصل عليه، هو إعادة ترسيم الحدود بين ما هو عسكري وما هو سياسي مدني، لكي يبقى الاحترام قائمًا والود موصولًا بين كل مكونات المجتمع.
على أن الصورة في السودان، أمس، تحمل رسائل إضافية، لعل أهمها على الإطلاق إعادة التأكيد على أنه ليس ثمة ثورة مضادة، بل نحن بصدد ثورة شعبية واحدة تدافع عن أحلامها المشروعة، بمواجهة حربٍ تشنها أجهزة النظام ومؤسساته الأمنية عليها لإحراقها وقتلها، ذلك أن الشعب السوداني قال كلمته في أروع وأنزه أدوات الممارسة السياسية أمس، فتحول العصيان المدني إلى اقتراع عام قالت نتائجه المعلنة بوضوح: لا للحكم العسكري.. نعم لتحقيق مطالب الثورة كاملة غير منقوصة، وهي النتيجة التي تعبر عن سقوط تام لأكذوبة الثورة المضادة، التي هي، مرة أخرى، من الأوهام الكبيرة التي يبيعها العسكريون، والمتواطئون معهم من مطايا النخب السياسية، بمختلف توجهاتها، لخداع الشعوب واستدراجها لإضرام النار في أحلامها.
بالأمس، استعادت ثورة السودان مسارها الصحيح، واستردّت عافيتها، وفرضت نفسها واقعًا راسخًا، وأظنها استوعبت أخطاء النشوة الأولى، حين ظنت أنها أنجزت كل شئ بزوال عمر البشير، ووقعت في غواية الإقصاء والانفراد بالحصاد قبل أن تنضج الزرعة.
ها قد عادت الكلمة لثورتكم، فأتموها على وجهها الصحيح، ولا تضيعوها مجدّدًا، ولا تصنعوا لها خصومًا جددًا، واجعلوها مظلة يتشارك تحتها الجميع.
وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا