أنا ساقط يا فريال؟

أنا ساقط يا فريال؟

09 يونيو 2019
+ الخط -
يمكنني أن أُقَدِّمَ في زاوية "وأخيراً" على الصفحة الأخيرة من "العربي الجديد" حكايات ذات دلالة. منها واحدة رواها لي صديقي المهندس الفنان ماهر حميد. مَهَّدَ ماهر لحكايته بالقول إن الفتى من أبناء الجيل الجديد ما إن تفقس عنه البيضة، حتى يسارع إلى مطالبة أبيه بحقه المشروع في اقتناء هاتف محمول (جَوَّال). وإذا كان الأب من النوع الغاضب المكفهرّ الذي يترك مسافة أمان بينه وبين أولاده، يلجأ الفتى إلى بيت الحنان، الأم، متوسلّاً إليها أن تتوسّط له عند أبيه، وترجوه أن يرضخ للحق ويشتري له جَوَّالَاً، أسوةً بأقرانه الذين يمشي الواحد منهم الخُيَلَاء، واضعاً موبايله على زنّاره، مثل عناصر مخابرات نظام الأسد الذين يمشون في الأرض مرحاً، ومسدساتهم على خصورهم!
وأضاف ماهر: إن أبناء الجيل الذي وُلِدَ في عصر الكومبيوتر والأقمار الصناعية والإنترنت وما يتفرّع عن هذه الاختراعات الجبارة من رسائل SMS، وإيميلات، وتلغرام، وتويتر، واتصالات بالجوّال أو بالماسنجر، أو فايبر، أو واتساب، أو السكايب.. لا يعرف شيئاً عن معاناتنا، نحن المتقدمين بالسن، حينما كان الواحد منا يذوق الأمَرَّيْن إذا أراد أن يتصل بأحد، أو يرسل رسالة لأحد.. وإذا أردتَ أن تضحك وتستمتع، أحكي لك عن خالي نجم الذي سافر إلى مصر في بداية الستينات للدراسة.
قلت لماهر: لقد تحوّلنا، نحن السوريين، إلى شعب مقهور، متألم، بَكَّاء، وما عادت الضحكة تعرف إلى وجوهنا سبيلاً من كثرة الأعداء الذين جاؤوا ليساعدوا ابن حافظ الأسد في قتلنا وإفقارنا وتشريدنا، ولكن، ومع ذلك، تفضلْ واحكِ لي حكاية خالك نجم، عسانا نضحك، أو في الأقل نبتسم، فتهدأ نفوسُنا قليلاً في انتظار القصف الجوي البراميلي، أو الكيماوي القادم.
قال: في إحدى إجازات الصيف، خطب خالي فتاة جميلة اسمها فريال، وهي من أقاربنا طبعاً، لأن العادة جرت، في تلك الأيام، أن يتزوج الفتى، وخصوصاً إذا كان ذا شهادة علمية، من بنات أعمامه أو أخواله أو خالاته، لئلا تستفيد من علمه ومركزه بناتُ العائلات الأخرى. المهم؛ تزوج خالي، وقفل عائداً إلى مصر، تاركاً زوجته الشابة في منزل والده. وكانت وسيلة التواصل الوحيدة في تلك الأيام هي المكاتيب. الشاب يبعث لزوجته مكتوباً وهي ترد عليه بمكتوب. وكانت رسائل الفتاة إلى خطيبها لا تتضمن أي نوع من عبارات الغرام، بل تقتصر على عبارات من قبيل: والدتك البارحة بهدلتني، لأنها وجدت الدرج غير مشطوف، وأنا ما جاوبتها لأنها أمك وأنا أعتبرها بمقام أمي. وطبخت ثرود باميا. وعمي أبو نجم الله يطول عمره قال لي يا فريال طبيخك طيب.
كان مركز بريد قريتنا، في تلك الأيام، هو دكان البقال الحاج عبدو، الذي يحتوي على كل ما يلزم للقروي من أدواتٍ وأطعمة بسيطة. وكان الحاج عبدو يستلم المكاتيب القادمة من مركز بريد الرّقة في سيارة "البوسطة"، ويسلم لسائق البوسطة المكاتيب الخارجة من القرية إلى العالم الخارجي. ولكن تسليم المكاتيب القادمة والخارجة يتأخر يوماً أو يومين في الدكان، لأن الحاج عبدو كان يفتح كل الرسائل ويقرأها، ويعيد إغلاقها. ولأن عائلتنا كانت تعتبر من العائلات العريقة (الذَوات)، فقد دأب الحاج عبدو على إحضار المكاتيب القادمة باسم فريال إلى المنزل بنفسه.
كان خالي نجم يعرف أن الحاج عبدو يقرأ الرسائل، فكتب لزوجته: يا فريال، لا تكتبي أسراراً ضمن مكاتيبك، لأن الحاج عبدو واحد ساقط يقرأ الرسائل. حينما وصلت الرسالة أحضرها الحاج عبدو بنفسه، وقرع الباب وهو غاضب: وين الست فريال؟ تعالي. تفضلي. هادا مكتوبك. يا عين عمّك، اكتبي لزوجك قولي له عيب عليه يقول إني أقرأ المكاتيب، وعيب يقول عني ساقط، وأنا من جيل والده!

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...