عن مدرسة الفتيات اليهوديات في تونس

عن مدرسة الفتيات اليهوديات في تونس

08 يونيو 2019
+ الخط -
أذيع خبر فتح مدرسة الفتيات اليهوديات في جزيرة جربة جنوب تونس، وانتشر على هامش تنظيم محجة كنيس الغريبة السنوية في هذه الجزيرة، التي يقصدها يهود العالم الراغبون في الزيارة، بمن فيهم القادمون من الدولة الصهيونية القائمة غصباً في فلسطين المحتلة، نهاية الشهر الماضي (مايو/ أيار 2019). وكشف عن احتفالية الافتتاح الحاخام اليهودي الفرنسي موشي لوين الذي نشر صوراً تثبت صحة الخبر، الأمر الذي أكده وزير السياحة التونسي من أصل يهودي ريني الطرابلسي، على الرغم من نفيه الإشراف على عملية الافتتاح. وأقرّ الوزير بأن المدرسة أقيمت بسبب وصية من امرأة يهودية سكنت المنطقة التي يقطنها يهود جربة، متمسكة بالأعراف الدينية اليهودية التي تقضي بفصل اليهود بين الفتيان والفتيات عند بلوغ سن الخامسة عشرة. ويعود إحداث مدارس للإناث في تونس إلى بدايات الفترة الاستعمارية في نهاية القرن التاسع عشر، عندما تم بعث المدرسة الفرانكو - عربية للإناث، ونظيرتها للذكور على يد المستشرق الفرنسي لوي ماشويل، الذي تولّى إدارة التعليم في تونس في ظل الدولة الاستعمارية، بتكليف من المقيم العام الفرنسي بول كامبون، مستنسخاً برنامج تلك المدرسة من التعليم الابتدائي الفرنسي في ما يتعلق بالموادّ المدرسة باللغة الفرنسية. وقد أضيف إلى ذلك تدريس اللغة العربية (اللهجة العامية) لأبناء المعمّرين على حد تعبير أستاذ الجامعات الفرنسية، مؤلف الأطروحتين "التعليم، الاستعمار وما بعد الاستعمار في تونس" و"المعهد الصادقي بتونس"، نور الدين سريب.
إلا أن هذه التجربة التعليمية، التي تتخذ من الانتماء الجنسي والديني - الطائفي محدّدين رئيسين في الولوج إلى الفضاء التعليمي، قد وضع لها حداً الإصلاح التربوي المنسوب إلى الأديب التونسي محمود المسعدي، المعروف بإصلاح 1958، الذي أسس للتعليم المختلط في المدارس ومختلف المؤسسات التربوية والجامعية التونسية. واستمر هذا التوجه على الرغم من التغيرات التي عرفتها المنظومة التربوية في مستويات التكوين والموادّ والبيداغوجيا والتقييم وتدريس 
اللغات والأزمنة التربوية، مع إصلاحي محمد الشرفي سنة 1991 ونظيره منصر الرويسي مهندس فكرة مدرسة الغد سنة 2002. بل إن القانون التوجيهي عدد 80 لسنة 2002 رفض، بصفة قاطعة وجذرية هذا النوع من التعليم، وجاء فيه أن "التربية أولوية وطنية مطلقة والتعليم إجباري من سنّ السادسة إلى سنّ السادسة عشرة، وهو حق أساسي مضمون لكل التونسيين لا تمييز فيه على أساس الجنس أو الأصل الاجتماعي أو اللون أو الدين، وهو واجب يشترك في الاضطلاع به الأفراد والمجموعة". وأكد أن "التربية تهدف إلى تنشئة التلاميذ على الوفاء لتونس والولاء لها، وعلى حب الوطن والاعتزاز به وترسيخ الوعي بالهوية الوطنية فيهم، وتنمية الشعور لديهم بالانتماء الحضاري في أبعاده الوطنية والمغاربية والعربية والإسلامية والأفريقية والمتوسطية، ويتدعم عندهم التفتح على الحضارة الإنسانية". وهذا التوجه ثبّته دستور تونس لسنة 2014، فقد تضمّن أن الدولة "تعمل على تأصيل الناشئة في هويتها العربية الإسلامية وانتمائها الوطني، وعلى ترسيخ اللغة العربية، ودعمها واستخدامها والانفتاح على اللغات الأجنبية والحضارات ونشر ثقافة حقوق الإنسان". ولكن هذه الخيارات التعليمية التربوية البينة المبادئ والمعالم، لم تمنع الاستثناء بالنسبة لليهود في تونس الذين ميّزتهم المدرسة التونسية، بعدم دراسة مادة التربية الإسلامية التي أصبحت تسمى لاحقاً التفكير الإسلامي، وعدم احتسابها في المعدلات السنوية، وأعفتهم من الدراسة وإجراء الامتحانات يوم السبت بوصفه يوم عطلة أسبوعية عند اليهود، بما في ذلك امتحان البكالوريا، قبل إلغاء إجراء هذا الامتحان يوم السبت نهائياً.
وقد كشف بعث مدرسة يهودية للفتيات في تونس، وجود منظومة تعليمية "يهودية" موازية للمدرسة التونسية، تشتغل في كنف السرية واللاقانونية، ولا تعتمد المقرّرات والمناهج التربوية التونسية، ولا يشرف على التدريس فيها معلمون وأساتذة مكلفون من الدولة التونسية، تستعمل مقرّات الكنائس اليهودية فضاءات لتعليم الأطفال اليهود اللغة العبرية، وتعاليم التوراة واليهودية. ومن أبرز مؤسسات هذه الشبكة التعليمية مدرسة "رِبي شلوم حداد" التي أُسست، حسب الرواية اليهودية، قبل مئات السنين في أحد أزقة الحي اليهودي أو "الحارة الكبيرة" في جزيرة جربة، لتدريس أطفال الجالية اليهودية "تعاليم الديانة ومناهج الحياة". كما لا يخضع هذا النوع من التعليم الديني لإشراف وزارتي الشؤون الدينية التي تؤطر وتنظم عمل الكتاتيب القرآنية، والمرأة والطفولة التي تنظم عمل الروضات القرآنية، ما يضع الوزارتين والحكومة التونسية موضع الساكت على وجود مؤسسات تعليمية خارجة على القانون التونسي المنظم للوضع التربوي في مختلف مراحله.
موجة احتجاجات كبيرة ونقاشات عميقة اجتاحت الفضاءات العامة الافتراضية، والصحافة 
الإلكترونية ومنتديات النخب الفكرية والمجالس الشعبية، بعد انتشار خبر تأسيس مدرسة الفتيات اليهوديات، يطلب أصحابها تطبيق الإجراءات نفسها التي تطبقها الحكومة على المدارس القرآنية التي تُفتح بطريقة عشوائية، من دون ترخيص مسبق من الدولة ومؤسساتها مرجع النظر، أو التي يشتمّ من برامجها التعليمية روائح التطرّف وترويج الدعوات التكفيرية، وأحسن مثال على ذلك ما حصل مع مدرسة الرقاب القرآنية التي تم غلقها بقرار حكومي، وحظيت بجلسة عامة برلمانية، حمي وطيسها، وأُحيل شيخها على أنظار المؤسسة القضائية.
ومردّ هذا المطلب الشعبي بعدم كيل الحكومة التونسية بمكيالين في تعاملها مع المدرسة اليهودية، الخشية من تأثيرات اللوبيات اليهودية القوية، النافذة المؤثرة، في تونس وخارجها في الدول الكبرى، على دوائر الحكم التونسية، وعلى التحالف الإسلامي - اللاييكي الحاكم، ممثلاً في أحزاب النهضة وتحيا تونس ومشروع تونس ونداء تونس، التي لا تدّخر جهداً في إثبات حسن نياتهم، والمشاركة في احتفالات كنيس الغريبة سنوياً التي تستقبل يهوداً، وصهاينة قادمين مباشرة من فلسطين المحتلة، بجوازات سفر إسرائيلية، من دون أدنى حرج تجاه القضية الفلسطينية عموماً، وتجاه دماء الشهداء ضحايا الجرائم الصهيونية على أراضي فلسطين وتونس.
التزمت الحكومة التونسية الصمت تجاه وجود مدرسة تعمل خارج نطاق القانون التونسي، وتسوق وتربي بعض الناشئة التونسية، على أساطير وخرافات دينية، تؤسّس لولاءٍ يوازي الولاء للأرض والوطن والدولة، ينساب في لا وعي الأفراد ولا شعورهم السياسي، إلا في ما ندر. وبصمتها، وخشيتها، وخوفها، وتردّدها، وعدم التزامها تطبيق القانون على الجميع، بما يضمن وحدة المجتمع وتجانسه وانسجامه الوطني، تفتح الحكومة التونسية الباب واسعاً أمام أنماط أخرى من التعليم الموازي، بدأت تنتشر في تونس وتلقى رواجاً وإقبالاً، مثل مدارس الآباء البيض المسيحية، ومدارس البعثات الدبلوماسية، الفرنسية والكندية والأميركية، وما شابهها من مدارس خاصة، تلقن مقرّرات أجنبية للأطفال التي عرفت تسابقاً حادّاً من التونسيين، للظفر بمقعد فيها لأحد أبنائهم الذين هم في سنّ الدراسة، بما يعدّهم للولاء والعمل في مجتمعات ودول أخرى، والتزام أنماط حياتها وثقافاتها، وحتى عقائدها ودياناتها، بالنسبة لبعضهم، فتلتقي بذلك في الغايات مع مدرسة الفتيات اليهوديات، على الرغم من اختلاف المنطلقات.

دلالات