في معضلة البوصلة ووجهتها عربياً

في معضلة البوصلة ووجهتها عربياً

07 يونيو 2019
+ الخط -
هناك كثير يمكن قوله في توصيف واقعنا، نحن العرب، وَجُلُّهُ لن يكون إيجابياً، اللهم إلا إذا كنَّا نبحث عن تعزيةٍ للذات، وإبقاءٍ لجذوة أملٍ متّقدة في نفوسنا، في زمنٍ يبدو فيه أن الأمل يتلاشى. بمعنى آخر، قد يكون الحديث عن أسبابٍ تدعو إلى التفاؤل عربياً أقرب إلى حالة إنكارٍ منه إلى اعترافٍ بالحقيقة، وهو قد يدخل في سياق الأماني والأمنيات لا واقع الحال. قد يُطرح اعتراض هنا بشأن الإحالة، راهناً، إلى العروبة هوية جامعة، وما إذا كانت ما زالت قائمة فعلاً، وما إذا كان بقي هناك عرب، انتماءً ومشروعاً، وهو اعتراضٌ له منطق، فالعروبة اليوم هوية، تندرج في سياق حديث الأشجان والوجدان، أكثر منها في سياق الهوية والرؤية والمشروع والمصير المشترك. المشكلة هنا أننا لا نعاني في سياق هويتنا العربية الجَمعِيَّةِ فحسب، بل إننا نعاني كهويات فرعية، بل كأفراد، في إطار العروبة، وهو ما يستدعي نقاشاً أعمق في أزمتنا وأوجهها المتعددة.
لن يكون في وسع مقال سريع وعابر الإحاطة، لا كلياً ولا حتى جزئياً، بموضوعٍ جذري وعميق كهذا، وهو على الأرجح سيدخل أكثر في باب مزيدٍ من توصيف الحال، وطرح مزيدٍ من الأسئلة، غير أنه يبدو أن لا خيارات كثيرة أمامنا، وخصوصاً أننا ما زلنا نتلمّس طريق الخروج من هذا الواقع الآسن، وفي ضوء فِعْلِ قوى الشدّ العكسي النافذة وأثرها. ضمن هذا السياق، أحسب أن ثمة ثلاثة أسئلة مركزية ينبغي أن نقدّم إجابة لها، إن رُمْنا نهضة وانبعاثاً جديدين، باعتبارنا عرباً، يمكن تلخيصها في: من نحن؟ وماذا نريد؟ وما هي بوصلتنا وما هو اتجاهها؟ هي أسئلة لا يمكن أخذها منعزلةً بعضها عن بعض، إذ إنها تشكل نسق الأزمة، ونسق الخروج منها، إن استطعنا الإجابة عنها، وإيجاد صيغ ومعادلات تدمج بينها ضمن مشروعٍ ورؤية، ومنهجية بَعْثٍ وعمل جديدين.
في سؤال الهوية، يبدو أن أزمتنا فيها أعمق من مجرّد تشكيكٍ بعروبةٍ وعرب، إذ إنه حتى في سياق الهويات الفرعية، وتحديداً الوطنية، نجد تمزّقاً وتمييعاً فيها، سواء على أسسٍ قبلية أم
 جهوية أم مناطقية أم عرقية أم مذهبية أم دينية. بل حتى على أسس سياسية وأيديولوجية. وإذا كنَّا، بحكم الخبرة المعاشة، ندرك معنى التمزّق على أسس قبلية وجهوية ومناطقية وعرقية ومذهبية ودينية، فإننا لم نلق كثير بالٍ لما هو أخطر منها، وهو الأساس السياسي والأيديولوجي، الذي تبلور أكثر منذ انطلاق الثورات العربية، مطلع عام 2011، وإن لم يكن وليدها.
إننا لو أمعنا النظر اليوم لوجدنا أن الوطنية في الفضاء العربي، على الأغلب، مناطها، تعريفاً، هو مدى القرب أو البعد من موقف أنظمة الحكم، فمن كان مع سياسات النظام، مصيبةً أو مخطئة، فهو وطني، ومن خالفها يجرّد من تلك الصفة، ويُنعت خائناً خارجاً على الإجماع الوطني. وبهذا، فإن الوطنية في بعض الدول العربية تحولت إلى شوفينية سياسية وأيديولوجية، بل إننا نشهد إرهاصات تحوّلها أيديولوجية نازية باسم الوطنية التي لا تمتّ إلى الوطن، بقدر ما هي مرتبطةٌ بحكم عصابات عائلية وعسكرية وحزبية وَتَغَلُّبِيَة. إذاً، نحن نتحدّث عن عملية طرد وإقصاء داخل منظومة هوية فرعية، وهي في المحصلة تقود إلى حالةٍ من العزلة والنفور داخل الهوية الجَمَعِيَّةِ الأشمل والأوسع، العروبة.
هذا يقود إلى السؤال الثاني، ماذا نريد؟ وهو لا ريب مرتبط بالسؤال الأول، من نحن حتى نعرف ماذا نريد. إنك لو سألت عربياً اليوم، ضمن تفريعات هذه الهوية الكثيرة، ماذا تريد، فلن تجد جواباً جامعاً مانعاً. أزماتنا وكوارثنا كثيرة، ووجوهها أعقد وأكبر من أن تحصر. ترى من أي أولويةٍ ستنطلق إجابة العربي، أمن حالة الإفقار التي يكابدها، أم من واقع السحق الذي يعيشه، أم من حالة الهوان التي يعانيها، فرداً وأمة؟ العربيّ، ونحيل على الهوية الجَمَعِيَّةِ هنا لناحية اشتراكنا في المصائب، يعاني كل ما سبق وأكثر، فحضارتنا متخلفةٌ عن الركب اليوم تكنولوجياً وإدارياً وإنسانياً. وفوق هذا، نعاني من كبت وقمع داخلي، وهوان وإهانة على المسرح الدولي. إننا نقتل بأيدي أنظمة ومليشيات منا وفينا، ونقتل بأيدي دولٍ تزعم الحضارة والمدنية، ولا ترى في سفك دمائنا واحتلال أراضينا سبباً لنزع تلك الصفة المُدّعاة عنها. ومن ثم، فإن صياغة مشروع النهضة والإحياء عربياً تجد نفسها أمام إعاقات ذاتية جزئية يصعب لَمُّ شعثها لكثرتها وتفرقها.
تتعلق المسألة الثالثة في هذا السياق بسؤال البوصلة واتجاهها، فإذا كان ما سبق توصيف 
واقعنا، وهو مُخِلٌّ بكل تأكيد، فكيف لنا أن نتفق على نوعية البوصلة ووجهتها، وخصوصاً أننا لا نستطيع الاتفاق على أي هويةٍ تجمعنا، وأي نتيجةٍ نريد أن نصل إليها؟ إنك لو اكتفيت بأخذ بعض التعبيرات العَصَبِيَّةِ الشوفينية التي يطلقها دعاة ثقافة ودهماء، لأدركت صعوبة الحديث عن بوصلةٍ عربية جَمَعِيَّةٍ ووجهة لها. إننا اليوم، استناداً إلى تلك العصبيات، بَدْوٌ، كانوا حفاة عراة، تطاولوا بالبنيان، ولكن لم تتغيّر طبائعهم البدائية، ونحن "عرب الشمال"، وَثَمَّةَ حاسد ومحسود عربياً، وَثَمَّةَ شعوب في جيناتها استمراء للذل والمهانة، وأخرى باعت أعراضها وأراضيها للأجنبي. وهكذا دواليك من تلك التعميمات في الإحالة والتنابز في التَعْييرِ البيْني، إلى حد وصلنا فيه إلى أن يخرج علينا من يزعم انتماءً عربياً معلناً، من دون خجل ولا وجل، بالقول إن إسرائيل أقرب إليه من أخيه العربي، وآخر يرى في سفك إيران دماءنا مندرجاً ضمن مشروع المقاومة التي نحتاج، نحن العرب، لمن يذكرنا بها ويعلمنا إياها!
ذلك هو بعض نسق أزمتنا الكبرى الذي نحن بحاجة إلى النظر إليه في كليته، ونحن نبحث عن سؤال النهضة والإحياء العربي، ولا ينبغي أن نهمل هنا أمراً شديد الأهمية، مكانة الدين في مشروع النهضة وإعادة البعث. ولكن سيبرز سؤال جديد، عن أي مفهوم للدين نتحدّث، وأي دور له؟ هذا موضوع آخر لا يقل تعقيداً عمَّا سبق. تُرى، أبعد ذلك كله، هل ترون أسباب الإحباط والتشاؤم؟ إننا إن أردنا الخروج مما نحن فيه، فلا بد أن نكون على قدر التحدّي، ونقدّم إجابات كلية لأزماتنا ومعضلاتنا، وحينها فقط، يمكن لنا الاتفاق على البوصلة ووجهتها.