اتركوا مجالاً للصلح يا جيوش

اتركوا مجالاً للصلح يا جيوش

07 يونيو 2019
+ الخط -
يجهد حكماء في محاولة إقناع جيل الشباب العربي بأنه لا مجال لإشهار العداء لجيوش الأنظمة العربية، ذلك أنها تشغل، شئنا أم أبينا، مواقع ضخمة، مجتمعية واقتصادية وأمنية وسياسية، ولأنها بحكم ترسخها في مجتمعاتنا، راكمت من السلطة، ما يجعلها مستعدّة لفعل أي شيء لحماية نفوذها الذي يتعدّى إطار الحكم وحده إلى ميادين بعيدة في اقتصاد البلد وعشائره وطبقاته الاجتماعية. يجهد الحكماء إياهم في القول للساخطين على القوات المسلحة سيئة السمعة، في معظم البلدان العربية، إن الحل الأنسب هو محاولة استمالة دوائر نافذة في الجيش، عبر التفاوض والحوار، لجذبها إلى موقعها، أي إلى مواقع الناس، خصوصاً في زمن الانتفاضات الشعبية، مع ما تفرضه مراحل الانتقال الديمقراطي من مساوماتٍ وتنازلاتٍ ضروريةٍ وحجز مساحاتٍ من السلطة لممثلي العسكر من المنحازين إلى القوى الشعبية إياها. كلام لا بد أن يكون صحيحاً، على الأقل نظرياً، لأن البديل، مثلما عرفناه، لا يعني إلا حرباً أهلية، بما أنه لا مجال بعد للكلام عن أي احتمال لقيام ثورة شعبية مسلحة في عالمنا العربي، تقلب قوانين المجتمع والسياسة والاقتصاد، على الأنساق الفرنسية أو البلشفية مثلاً، بل إن المطروح هو تحول ديمقراطي تدريجي، وعدالة انتقالية، يفرضان إلزاماً مساوماتٍ بين قوى اجتماعية، وتسوياتٍ بين أطراف سياسية، وسحب القوى الشعبية الراغبة بالكرامة وبالديمقراطية وبالحرية، ما أمكن من دوائر ولوبيات وطبقات اجتماعية ونُخب، إلى صفوفها، وذلك ليس مستحيلاً، في حال وُجدت إدارة حسنة في الحراك الشعبي، وتنظيم يتوفر فيه الحد الأدنى من الالتزام والهيكلية لتسيير التفاوض.
لكن المبدأ النظري ذاك، وهو صحيح إن صدّقنا ما يفيدنا به التاريخ في كل مكان، يُستنفد كل يوم في منطقتنا، ويفقد المزيد ممن كان ممكناً إقناعهم به في كل دقيقة، مع توالي مشاهد إصرارالجيوش العربية، النظامية منها والمليشياوية التابعة لها، على تكذيب أي حكمة تاريخية، وعلى رمي كل خلاصةٍ منطقيةٍ في سلة المهملات، فترى جيوشنا تأخذ مجتمعاتها بيدها صوب الاقتتال الأهلي الذي يعيد بدوره إنتاج الأنظمة، وهي أنظمة العسكر طبعاً، بما أنها هي، أي القوات المسلحة في حالتنا، تبقى الطرف الأكثر تنظيماً وقوة وخبرة في الحفاظ على الوضع القائم، بالأدوات كافة: الطائفية، والعشائرية، والمناطقية، والخارجية، أي في مخاطبة الغرب المنافق عبر معزوفة استقرار الأمن أو الحفاظ على مصالح الرجل الأبيض في العالم العربي، النفطية والإسرائيلية، وصولاً إلى توظيف فزاعات اللاجئين والهجرات السرية لفقراء العالم.
لو قُدّرت لنا استشارة فانوس سحري بغية فهم ما يدور في عقل أحدهم، لاخترنا اقتحام رؤوس جنرالات الدم في السودان ومصر وسورية وليبيا.. لمحاولة استيعاب كيف فكروا ويفكرون عندما قرّروا ويقرّرون يومياً، بدم بارد، قتل شعوبهم والتنكيل فيهم؟ ألم يفكروا بأنهم يزرعون بذلك بذور حقد لن تخفف من وطأته عشرات السنوات؟ ألا يفهمون أنهم بذلك يقتلون أي مجال لمصالحة مستقبلية مع الشعوب، تؤسّس لاحتمالات إعادة تقسيم سليمة لأدوارٍ لا تأخذ من الجيوش وظيفتها واحترامها، ولا تعطيها ما لا يجب أن تملكه أصلاً؟
قبل يومين من جريمة اعتصام القيادة العامة في الخرطوم، كان حميدتي يكيل الاتهامات لقوى المعارضة، فقال ما لم يتم التوقف كفايةً عنده: قال إن قوى الحرية والتغيير "تريد إعادة الجيش إلى الثكنات العسكرية". هكذا نطق حرفياً في إطار ما يظنّ أنه اتهام فظيع للمعارضة التي جاهرت بالكبائر، عندما اعتبرت أن دور القوات المسلحة هو حماية البلد من الأخطار، بينما وظيفة السياسيين هي الحكم وإدارة شؤون الدولة، مثلما يجدر أن يكون عليه الحال في أي حياةٍ سياسيةٍ ديمقراطيةٍ. وكأن حميدتي تطوّع للحديث باسم نظرائه جنرالات الدم العرب: لا نريد مصالحة مع شعوبنا، ولا نحن في وارد القبول بالانتقال إلى دول "طبيعية"... وأعلى خيلكم اركبوه.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري