موقعة جمل أم تاجر جمال؟

موقعة جمل أم تاجر جمال؟

06 يونيو 2019
+ الخط -
سواء أتت الجمال من دارفور أم من أم درمان أو من كرداسة، فكلنا، في النهاية، في بلاد العرب، سواء، وفي حسن الفِطن سواء، وفي الاستهانة بالخطر القريب من أصابعنا سواء، وفي الميادين الثائرة عن سلميةٍ وطيبةٍ سواء، سواء رسمنا على وجوه صغارنا الأعلام، أو على جدران جامعة، أو حتى على رقبة جمل عزيز علينا، ندّخره للحرب، أو حتى ندّخره للفتنة، أو ندّخره لفض الميادين، فالتجارب متشابهة إلى حد بعيد، واللؤم متشابه، والمكر واضح، ويفيض على الوجوه بمجرد قراءةٍ بسيطة.
كنت في أحداث باريس ضد ماكرون وسياساته الاقتصادية، والتي استمرت أسابيع وما زالت، أبحث عن سؤالٍ وحيد: لماذا على الرغم من كل هذه الآلاف المؤلفة في ميادين عدة في فرنسا لم نسمع عن "طرف ثالث"، لا من الثائرين ولا حتى من السلطة، بل مواجهة شريفة فقط ما بين سلطةٍ وثائرين من أجل مطالبهم الاقتصادية. وبالطبع، دعنا من الجمال والخيول وكرداسة أو أم درمان أو دارفور، ودعنا حتى من تكلفة عليقها من شعيرٍ أو غلال، أو موتها بسبب نقص دولارات السياحة في البلاد، ولا حتى بفيلم يسري نصرالله الذي أخرجه بتمويلٍ فرنسي، تعاطفا مع علف الخيول والجمال في كرداسة وأصحابها، بعدما أصبح هؤلاء بلا عمل، بسبب ثورة يناير التي حرمت مساكين كرداسة، يا عيني، من الشعير والأرغفة ولبن الأطفال، فسالت عيون يسري نصرالله دمعا صبيبا، كي يذكّر العالم بذلك الضرر البالغ الذي أصابهم من الثورة، بل كادوا، بعد ثورة يناير، أن يأكلوا الحشائش وهوام الأرض، فلماذا لم يذهب، بكاميراته الشفوقة، إلى أصحاب مقاهي باريس ومحلاتها وبنوكها، بعدما تمت سرقتها وحرقها، كي نعرف ما أصابهم من فقر وقهر. ولكن دعنا من دموع يسري نصرالله ووقف الحال والعمل، لأنه، بعد هذا الفيلم الذي "تحجج" فيه بوقف الحال في كرداسة، وكانت كما ذكر هي حافزة "الإنساني" لصناعة الفيلم، ولا أي شيء آخر، فقد توقف حاله هو إلى الآن، ولم نرَ له، من سنوات، أي عمل.
والآن، دعنا من دموع يسري نصرالله الشفّافة، وخلِّنا في "عصا" الفريق ركن محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، وهي بالطبع أصغر كثيرا من عصا عمر البشير، وإن هدّد بها على خفيف ولوّح بها، إلا أنه لم يتراقص بها بعد، كما اعتاد البشير في لحظات النشوة وكيد الخصوم، إلا أن البوادر أطلت، في الأيام الكريمة، ما يشير إلى شيءٍ لم يعد خافيا، لا على اللبيب أو غير اللبيب، فقد فتحت القاهرة أحضانها لرئيس المجلس العسكري مرة واحدة، ويقال إن رئيس المخابرات المقال (وفقا للكلام الساكت) أو غير المقال، هو الآخر في أحضان القاهرة، وطار حميدتي إلى كل من السعودية والإمارات في خطوتين جريئتين. وبدأ "يتفنّط" في الكلام، وشد الجملة على الأخرى، وإن كان لا يزال يستعين "بورقة"، مثلما قال: "هو إحنا مقطوعين من شجرة؟"، في إشارة إلى أن له ناسه أيضا، وعصبته، وفي المرات المقبلة قد يتخلى عن الباريه الذي ما زال مُصرّا عليه، ويرتدي هو الآخر البدلة والكرافتة، كما فعل رئيس المجلس العسكري في مؤتمر القمة العربية في مكة المكرمة. وعندئذ لن تكون هناك تجارة جمالٍ تطارد سيرته، سواء في أم درمان أو دارفور، بل سيترك شأن الجمال لتلامذته من صغار الجنود أمام وزارة الدفاع، وإن فعلها أهل السودان فقد فعلها إخوةٌ لهم في مصر أم الدنيا، ونحن جميعا أولاد نيلٍ واحد ومصيرٍ واحد أيضا. فما أشبه اليوم بالبارحة، والأعمى من لا يرى من غربال.