ملفّات العدالة في الجزائر.. ماذا بعد؟

ملفّات العدالة في الجزائر.. ماذا بعد؟

01 يوليو 2019
+ الخط -
يستمر الحراك في الجزائر على وقع توازي الملفين السياسي والقضائي في سرعتهما، فهناك بطء في الفعل السياسي، في حين أن الملف القضائي يمتد شيئاً فشيئاً، ليظهر عمق الفساد الذي نخر، وما زال، الاقتصاد الجزائري منذ عشرات السنين. على هذا، كيف يمكن النظر إلى ما قامت وتقوم به العدالة، وإلى أين يرمي عامل المسارعة بملفاته. وهل من تداعيات لذلك على الحراك من جهة، والحوار/ التفاوض من جهة أخرى.
اتخذ القضاء في الجزائر قراراتٍ جريئةً أفضت إلى حبس رئيسي وزراء سابقيْن، ومن قبلهما شقيق الرئيس المستقيل ومستشاره، إلى جانب مسؤولين سابقين على الاستخبارات، وذلك في إطار حملةٍ ضدّ الفساد، إثر استقالة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، طاولت رجال مال استفادوا من قرابتهم من النظام السياسي السابق، لنهب المال العامّ. وقد عبّر الحراك عن ابتهاجه بتلك القرارات، مع مطالبته بأن تطاول شخصياتٍ تتصدّر وتصدّرت المشهدين، الاقتصادي والسياسي، وأضافوا على ذلك، إحقاقاً للحق، أن يكون ذلك في إطار عدالة حقيقية، لا في إطار عدالة انتقامية، أو عمليات تصفية حسابات.
لا يمكن النظر إلى تلك القرارات أنّها خطوة في الطريق الصحيح، لإقرار واحدٍ من مبادئ الديمقراطية والتغيير، وهو مبدأ دولة القانون، الذي يؤسّس على أن الكلّ سواسية أمام القانون، وأن الجميع بريء إلى أن تثبت إدانته، بأدوات القانون، من تحقيق، قرائن وإثباتات لا يرقى إليها الشّك، إضافة إلى توفير حق الدفاع والمساعدة القانونية لمن يحتاج إلى ذلك.
وجب التنبيه إلى ذلك، لأنّ طبيعة الحملات التي تُشّن على الفساد أنها قد لا تراعي ذلك، كما قد 
يشوبها نوع من الظّلم أو تصفية الحسابات، لاختلاطها بشوائب السياسة، وهي حملة مكافحة الفساد، قد تنقلب، إذا شابها أيٌّ من العوارض التي ورد أعلاه جانبٌ منها، إلى ما هو أسوأ من الاستبداد، إذ تكون قد عوّضت الظلّم بظلمٍ أشدّ إيلاماً منه، وعواقبه على مسار التغيير لا تكون إلّا وبالاً.
وجاء صاحب هذه الكلمات، في مقالات سابقة في "العربي الجديد"، على استشراء الفساد في الجزائر، وضلوع طبقة من السياسيين فيه، ممّن فتحوا الباب واسعاً أمام من يُطلق عليهم "رجال المال"، لينهبوا المال العام بصفقات مشبوهة، اغتنى منها هؤلاء وأولئك، وسبّبت الأزمات، الاقتصادية منها والاجتماعية، التي ما فتئ يتخبّط فيها الاقتصاد الوطني. ووجب، الآن مع ما يحدث من نيّةٍ لإحداث التغيير في البلاد، إحالة الجميع على القضاء في ملفّات قال عنها قائد الأركان إنها ثقيلة جداً، وتطاول مجالات كثيرة (سوناطراك، الخليفة، الطريق السيّار شرق - غرب، إلخ..). وينبغي التنبيه أيضاً إلى أنّ من طبيعة هذه الحملات أنها تعيد المصداقية إلى الاقتصاد، وترفع عنه شبهات التنافسية غير الشريفة، وتصحّح مراتبه المتدّنية في مؤشراتٍ دوليةٍ عديدة، كما أنها تكون مقدمة لإرساء دولة القانون من ناحية، وتعطي إشارة الانطلاق في إدخال إصلاحاتٍ عميقة، تمسّ كلّاً من قطاعي العدالة والاقتصاد، من ناحية أخرى.
على مستوى الملف الآخر الدستوري - السياسي، من شأن مثل هذه الحملات، إن تمّت مقاربتها بالقانون، وبهدف إقرار دولة القانون، أن تقنع الحراك بأن النية صادقة في تهيئة أجواء حوار/ تفاوض جدّي، يُقصى منه من يثبت في حقه تلك التهم، وخصوصاً من السياسيين الذين طالب الحراك بأن "يتنحّاو قاع"، أي أن يرحلوا. وها هم على وشك الرحيل بأدوات القانون، وليس بأدوات تصفية الحسابات السياسية، وهي أصعب تفاصيل المراحل الحرجة في التغيير، التي يجب تجنبها لزاماً.
ومن دلائل اقتناع الحراك بأن الأشياء بدأت تتحرّك على مستوى الملفين، إسراع المجتمع 
المدني إلى اقتراح خريطة طريق للخروج من الانسداد، تتضمن مبادئ، من شأنها السماح بأجواء انتخابات نزيهة (تسمية لجنة عليا للإشراف على الانتخابات، وتسمية وزارة كفاءات جديدة)، وهي مبادرة تدلّ على أن الجميع واعٍ إلى وجوب تضافر جهود الكل، للعمل على
الخروج من الانسداد والانطلاق في مسار بناء جزائر جديدة.
طبعاً، لم يكن لهذه المبادرة وغيرها أن تولد، لولا أن الجميع مقتنع بأن الملفين يسيران بوتيرةٍ تكاد تكون متقاربة، وإن لم تبرز إلى الآن، بوادر ذلك الحوار/ التفاوض المنتظر، فما زلنا لا نعرف من سيمثّل الحراك في ذلك المسار، إضافة إلى أن الحراك (الطبقة السياسية، المجتمع المدني والشخصيات الوطنية) لم يتفق بعد على عرض واحدٍ يشمل تلك المبادرات، ويتقدّم بها في صف واحد، لينافح بها أمام الطرف الآخر، المتمثل في ثنائي المؤسسة العسكرية والرئاسة المؤقّتة.
ولعلّ الفائدة التي خرج بها الحراك في تظاهرات الأشهر الأربعة الماضية، هي تفطّنه إلى مبدأ أساسي للنجاح في عملية الحوار/ التفاوض، وهو الدخول فيها في إطار موحد، حيث حملت تلك التظاهرات شعار "نتوحّدوا قاع" (لنتوحّد جميعاً) دفعاً، ومنها من شوائب الفُرقة والجهوية المقيتتين التي انطلقت شراراتها على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي حاول بعضهم إذكاءها لتشغل الرأي العامّ، وتمنعه من إدراك بوصلة أهدافه من الحراك السلمي والحضاري الذي شارف شهره الخامس، وينتظر أن يؤدي إلى ميلاد جزائر جديدة.
يمكن القول بالنتيجة، إنّ من شأن الإسراع في تقديم تلك العروض الحوارية/ التفاوضية صنع 
إدراك لدى الطرف الآخر بأن ثمّة وعياً ومصداقية/ جدية، هما في مستوى الضرورة القصوى التي ما فتئ قائد الأركان يصرّ على أنها من الواجب أن يفهمها الجميع في سبيل إخراج الجزائر من الانسداد، على خلفية التهديدات التي تمسّ أمن البلاد، وخصوصاً في إقليم ملتهب بأزماتٍ تستدعي التوافق لإحداث التغيير بأقلّ الأضرار، إن أمكن.
في الأخير، تجدر الإشارة إلى أن الملفين، القانوني - القضائي والدستوري - السياسي، في حاجةٍ إلى تضافر جهود الجميع، وخصوصاً أن الجزائريين، في كلا الطرفين المعنيين بالحوار/ التفاوض، مقتنعون بوجود نقاط تقاطع بشأنهما، من حيث ضرورة أن تكون الملاحقات للمتهمين قانونية، وليست انتقامية في مسار إيجاد/ استعادة دولة القانون، من ناحية، وسعياً إلى تهيئة ظروف الإجماع على "الحلّ التوافقي"، خدمة لمستقبل البلاد، من ناحية أخرى، وكلا الملفين الآن حيويان، ويحملان شعار "الاستعجال" في الدفع بهما إلى أقصى ما يمكن.
أشير أعلاه إلى أن بعضهم، في الطبقة السياسية، ضالعٌ في ملفات الفساد، ذلك أن ثمّة سياسيين آخرين مارسوا مهماتهم بكل شفافية ونزاهة، كما أن ثمة سياسيين، نواباً ومسؤولين، قاموا بذلك وما زالوا في الإطار نفسه، وهو أمرٌ أصرّ الحراك على إبرازه كل جمعة، برفعه شعاراتٍ بوجوب أن يحمل هؤلاء عبء المرحلة المقبلة، سواء بتمثيل الحراك في الحوار/ التفاوض، أو من خلال تحمّل عبء مسؤوليات المرحلة المقبلة، في إطار حكومة كفاءات، وفي إطار تهيئة أجواء الانتخابات المقبلة.
من شأن مجرّد التفكير بهذه المنهجية أن يفتح الباب واسعاً أمام مسار التغيير، ليصل إلى مرغوبه، وهو المرجوّ من كلّ الجزائريين لبناء بلادٍ تشمل الكرامة فيها الجميع، وتضمن الحقوق للكلّ.. إنّها جزائر المستقبل، وإنّ غداً لناظره لقريب.