التجربة الأردوغانية وإعادة تصويبها

التجربة الأردوغانية وإعادة تصويبها

01 يوليو 2019

صدمة مؤيد لأردوغان بعد خسارة بلدية إسطنبول (23/6/2019/فرانس برس)

+ الخط -
مُني حزب العدالة والتنمية (الحاكم) الذي يتزعمه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بانتكاسةٍ في انتخابات الإعادة على رئاسة المجلس البلدي في بلدية إسطنبول الكبرى. وهناك أسباب كثيرة لهذه الهزيمة، أبرزها الأزمة الاقتصادية التي تواجهها تركيا في السنوات الأخيرة، تُفسّر تراجع شعبية الحزب عما كانت عليه قبل نحو خمس سنوات. كما أن رهان أردوغان على استعادة إسطنبول بالطعن على نتائج الانتخابات الأولى فشل، وجاء بنتيجة عكسية. في الانتخابات الأولى، خسر مرشح الحزب الحاكم، بن علي يلدريم، بفارق بلغ نحو 13 ألف صوت، وفي الإعادة توسّع الفارق بشكل كبير إلى نحو 800 ألف. يُمكن تفسير النتيجة الأخيرة بأن بعض الحاضنة الشعبية أرادت محاسبة حزب أردوغان، لأنه أعاد الانتخابات، واعتبرت ذلك ظلماً لمرشح المعارضة، إذ إن مناطق محسوبة على الحزب صوتت لصالح مرشح المعارضة، أكرم إمام أوغلو. وهناك المشاركة الكردية الواسعة في الانتخابات الثانية لمصلحة المعارضة. ويبدو أنّها ردّة فعل على محاولة الرئيس أردوغان استمالة الصوت 
الكردي، من خلال الرسائل التي نُقلت عن زعيم حزب العمال الكردستاني، المعتقل، عبدالله أوجلان، إلى أكراد إسطنبول، للوقوف على الحياد. وقد اعتبر بعضهم خسارة أردوغان في إسطنبول مقدمة لتراجعه السياسي، وأن نجم إمام أوغلو سيلمع في المرحلة المقبلة. ويستند هؤلاء في توقعاتهم إلى مقولة أردوغان إن من يحكم إسطنبول يحكم تركيا. هذه المقولة صحيحة إذا ما قورنت بحالة أردوغان نفسه، ولكنّها لا تصلح إلّا عليه نفسه، بالنظر إلى مكانة إسطنبول في وجدانه وصعوده السياسي من بوابتها. والمقارنة بين ظاهرتي الرجلين غير واقعية، فظاهرة أردوغان قامت على تجربة سياسية واقتصادية مثيرة للاهتمام، وظاهرة إمام أوغلو أحد إفرازات تراجع الشق الاقتصادي من هذه التجربة. كما أن إمام أوغلو سيواجه صعوبات في إبراز نفسه رئيساً قادراً على وضعه بصمته في إدارة إسطنبول، بالنظر إلى هيمنة الحزب الحكام وحلفائه القوميين على أغلبية المجلس البلدي. ومن المبكر جداً الحديث عن تطور ظاهرة إمام أوغلو إلى سياسية، يُمكن أن تواجه ظاهرة أردوغان.
الأمر الذي تنبغي قراءته جيداً في نتائج انتخابات إسطنبول أن هذه المدينة المهمة لم تصوّت لحساب "العدالة والتنمية" في استحقاقها الخاص، ولكنها لم تعاقبه في الاستحقاقات السياسية الكبيرة أخيراً، كالاستفتاء على تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي، ومن ثم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرتين. فضلت الحاضنة الشعبية لأردوغان التعبير عن امتعاضها في استحقاقات ضيقة، لمنحه فرضة للتغيير. وانتكاسة إسطنبول هي على مستوى ضيّق فرصة له لتفادي انتكاسة على مستوى أكبر، إذا لم يُدرك مكامن الخلل في السنوات القليلة المقبلة. التحدّي الأكبر الذي يواجهه الرئيس رجب طيب أردوغان هو إعادة ثقة الأتراك بتجربته الاقتصادية، 
وهذا يتطلب قراراتٍ سياسية داخلية وخارجية جريئة، لمواجهة هذا التحدّي.
تحتاج إعادة الثقة بالتجربة الاقتصادية التركية أولاً إلى حالة من الاستقرار السياسي، بعد استحقاقات انتخابية عديدة، أنهكت تركيا على مدى سنوات، وأثرت على نهضتها الاقتصادية. لدى تركيا أربع سنوات قبيل إجراء الانتخابات العامة في عام 2023، وهي تشكل فرصة لهذا الاستقرار، من أجل إعادة وضع تركيا على المسار الصحيح. وقد وعد الرئيس أردوغان بعد انتكاسة إسطنبول بمراجعة الحسابات وإصلاح الخلل في تجربة حزبه، العدالة والتنمية، ولم يستبعد إجراء تعديلاتٍ وزارية في المرحلة المقبلة. وستكون هذه الخطوة مهمّة بطبيعة الحال، لكنّها قد لا تكون كافيةً لوقف هذا التراجع الاقتصادي، ووضع حد لحالة الاستنزاف الشعبية للحزب الحاكم.
منذ تنحّي رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، عن السلطة، يواجه الحزب معضلة استنزاف كوادر رئيسية كانت مؤسّسة له، وتحظى بشعبية واسعة. وما زاد من تداعياتها أن شخصيات سياسية أخرى مؤثرة من الحرس القديم وجدت نفسها مهمّشةً لحساب الحرس الجديد، كالرئيس السابق عبد الله غول. ويتردد أن داود أوغلو وغول يعتزمان تأسيس حزب سياسي جديد، وهذا، إن حصل، فسيحول الحالة الشعبية الممتعضة من أداء حزب العدالة والتنمية إلى حالة سياسية ستُشكل تحدياً كبيراً أمام أردوغان، لوقف هذا الاستنزاف. وأي تغيير داخل مؤسسة حزب العدالة والتنمية يجب أن يأخذ في الاعتبار الحيلولة دون تطور حالة داود أوغلو وعبد الله غول، ولا يزال الخيار متاحاً أمام أردوغان، لتدارك هذا الأمر.
سيمهد الاستقرار السياسي المطلوب في تركيا وداخل الحزب الحاكم الأرضية للمهمة الصعبة التي تواجه "العدالة والتنمية"، وهي إعادة الحيوية للنهضة الاقتصادية التركية. وهذا الأمر لا يقتصر فقط على جوانب داخلية، بل يحتاج إلى إعادة تصويت السياسة الخارجية التركية على نحو واسع، لجلب مزيد من الاستثمارات الأجنبية. والتحدي الأخطر الذي يواجه تركيا وأردوغان في الوقت الراهن هو تصحيح مسار العلاقات مع الدول الغربية، وفي مقدمتها 
الولايات المتحدة. وقد شهدنا خلال العامين المنصرمين كيف أن التوتر مع واشنطن أدّى إلى ضغوط غير مسبوقة على الاقتصاد التركي. والعلاقة مع واشنطن اليوم أمام منعطف خطير، بسبب شراء تركيا منظومة "إس 400" الصاروخية من روسيا، ويلوح الأميركيون بعقوباتٍ على الأتراك، إذا لم يتراجعوا عن الصفقة. حاجة تركيا لامتلاك هذه المنظومة الدفاعية لا يُمكن أن تشكّل بديلاً لها عن حاجتها إلى إعادة الاستقرار للعلاقة مع الولايات المتحدة والغرب.
العلاقات التركية العربية بحاجة كذلك إلى إعادة تصويب. التوتر مع الرياض وأبوظبي، والانخراط بشكل متزايد في صراع النفوذ الإقليمي، ساهما في تراجع تدفق الاستثمارات الخليجية بشكل كبير إلى تركيا، وكان لذلك دور في التراجع الاقتصادي. على أردوغان العمل على صياغة سياسة جديدة في التعامل مع هذه الدول الخليجية، أو البحث عن بدائل أخرى يُمكن أن تعوّض غياب الاستثمارات الخليجية. إحدى القضايا المهمة التي تحتاج إليها تركيا أيضاً في المرحلة المقبلة من أجل الاستقرار السياسي هي إعادة الزخم للنهج الذي تبنّاه أردوغان في القضية الكردية قبل انهيار عملية السلام. الانفتاح المتواصل على أكراد العراق والدور التركي في شمال سورية ركيزتان أساسيتان لتصويب مسار هذه العملية.