مرسي وغيره.. واختبارات إنسانية

مرسي وغيره.. واختبارات إنسانية

30 يونيو 2019
+ الخط -
في الثقافة المصرية ومنذ آلاف السنين، هناك إجلال وتقديس كبير للموت، ظهر ذلك في المقابر الفرعونية العظيمة. الموت حياة جديدة، والإنسان يظل يعمل طوال حياته، انتظاراً لتلك اللحظة المهيبة. واستمر ذلك التقديس في طقوس المصريين، وإن اختلف الشكل، في الموت والجنائز، وفي الحفاظ على زيارة المقابر في الأعياد. ربما كان تقديس الموت هو ما جعل بعض النخبة السياسية والإعلامية المؤيدة للسلطة في مصر يترحّمون على الرئيس المصري السابق محمد مرسي عند وفاته، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل بعضاً من مؤيدي السلطة لا يشاركون في الحملات الإعلامية المنظمة للهجوم عليه.
ستترك وفاة أول رئيس منتخب بعد ثورة يناير 2011 أثراً فترة، وهو المسجون منذ 3 يوليو 2013. أثارت الوفاة ما كان متوقعاً من جدال قديم عن المبادئ، وهل هي واحدة أم تتجزأ، وهل الفجر في الخصومة من خصائص المنافق، أم أن الجماهير تعشق المستبد القوي. أجواء ما بعد 3 يوليو/ تموز 2013، وتلك الأيام المصاحبة للمذبحة أمام مقر الحرس الجمهوري، ثم المذبحة في ميدان رابعة العدوية، عندما كان هناك انقسام مجتمعي حادّ حول بديهيات، حوار ساخن وتلاسن وتنظيرات على وسائل التواصل الاجتماعي، ألغى بعضهم صداقات دامت سنوات طويلة بسبب ذلك الخلاف في الرأي، أصبح مجرّد الترحم على المتوفى مثار صراع، كما أن هناك من يطالب بحقوق الإنسان لقبيلته فقط، أما الآخر فلا حقوق له.
من منظور حقوقي بحت، وبغضّ النظر عن أي انتماءات أو خلافات أو مناوشات سياسية، فإن محمد مرسي، رحمة الله عليه، تعرّض لظلم بيّن وكبير، تم منعه من أبسط حقوقه المنصوص
 عليها في الدستور والقانون ولائحة السجون، أن يمكث شخص في السجن الانفرادي ست سنوات، محروماً من التريّض والعلاج، وممنوعاً من رؤية أهله وذويه وزوجته وأولاده، إن لم يكن هذا هو القتل البطيء، فماذا يكون؟ ذكّرتنا بذلك الجدال الحادّ بشأن قضايا حقوق الإنسان، هل يجوز المطالبة بتطبيق قيم حقوق الإنسان على من يراهم بعضنا إرهابيين؟ هل يجوز المطالبة بالحقوق لمن نكرههم؟ هل يجوز أن نساعد أو نتضامن مع من يكرهوننا؟
مكثتُ في الحبس الانفرادي ثلاث سنوات، وأعلم ذلك الألم وتلك الكآبة القاتلة، على الرغم من تمكيني من التريض شبه اليومي والزيارة شهرياً خلال مدة الحبس، فما بالك لو كان السجين مريضاً بأمراضٍ تحتاج لرعاية دائمة، وما بالك بمن هو ممنوعٌ من رؤية الأهل، أو الخروج في فترة التريض ستّ سنوات، وهي أبسط الحقوق الضرورية للحفاظ على الصحة النفسية والبدنية داخل السجن.
وفي مستشفى السجن، أو في قاعة الزيارة، كنت أحياناً أتصادف بوجود المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، مهدي عاكف، كان حوارنا لا يتعدى الثواني القليلة كل مرة، قبل أن يأتي الحرس ليصطحبوه إلى محبسه. فوجئت بأنه كان يعرف اسمي ويتذكّره، وكان يلقي عليّ التحية في كل مرة باحترام وأدب شديد، ويشدّ على يدي، وهو الشخص الجليل. كنت أتساءل: لماذا هو محبوس، ولم يكن له دور إداري في جماعة الإخوان المسلمين أو حزب الحرية والعدالة، بل هناك أحاديث تُروى أنه كان معارضاً داخل الجماعة بعض التوجهات والممارسات التي أضرّت بالجماعة بعد ذلك. تألمت كثيراً عندما علمت بخبر وفاته في السجن، رحمة الله عليه. وحزنت والدتي كثيراً، رحمها الله، ذكّرتني بأدبه الجم وتواضعه الشديد، عندما كان يقابلنا بعد انتهاء زيارته، وبداية زيارتنا في السجن.
لماذا يجب أن تكون المواقف الإنسانية مرتبطة بالموقف السياسي، أو المواقف الشخصية؟ كيف يكون هناك من يزعم أنه يدافع عن الحرية وحقوق الإنسان، في حين أنه يحاول حرمان خصومه من تلك الحقوق المطلوبة. أتذكّر مقالة كتبها أحد الزملاء في بدايات عام 2014، عندما سادت مشاعر وممارسات الإقصاء والفاشية في مصر، عنوانها "الحرية لمن يكرهوننا"، مستنكراً الحملات التي كان يشنّها مؤيدو الحكم العسكري ضد كل من يدافع عن حقوق الإنسان وقتها، أو ضد كل من يختلف معهم، واستنكر التخوين والترهيب الذي تمارسه السلطة، وتيارات سياسية، ضد كل من يحاول أن يكون موضوعياً في تفكيره، ففي تلك الفترة، كان هناك من يقول إنه لا حقوق إنسان للإخوان المسلمين، أو كل من يساند الرئيس المعزول محمد مرسي، و"الإخوان" عندما كانوا في السلطة فعلوا وفعلوا بمخالفيهم، ولكن الكاتب وقتها ذكّرنا بمبدأ أخلاقي مهم، أن المدافع الحقيقي عن الحريات وحقوق الإنسان، يجب أن يطالب بالحرية والحقوق لمن يختلف معهم ويكرهونه ويكرههم، قبل أن يطالب بها لأنصاره، فحقوق الإنسان يجب أن تكون للجميع، لا لمن ينتمي للقبيلة نفسها فقط.
كانت لبعض المنصفين ممن ينتمون للتيار المدني مواقف مهنية وحيادية دوماً، على الرغم من
 خلافهم في الفكر والمواقف مع جماعة الإخوان المسلمين، ومع أدائها بعد الثورة، أصرّوا على الترحم على مرسي، والتذكير بأنه لا يستحق هذا التنكيل، وأنه تعرّض لظلمٍ يفوق البشر. وكذلك أعادت مجموعات حقوقية عديدة ما نشروه منذ أكثر من عام عن الحالة الصحية للرجل، وتعرّض هؤلاء لهجوم مزدوج، أنصار عبد الفتاح السيسي في وسائل الإعلام والسوشيال ميديا، وأيضاً بعض مدّعي العلمانية الآخرين هاجموهم بضراوة، لأنهم متعاطفون مع "الإخوان"، ما داموا يترحمون على مرسي، ولذلك فهم إخوان وإرهابيون.
أتذكر جيداً استخدام فصائل "الإخوان المسلمين" العنف ضد خصومهم في أثناء أحداث عديدة كبيرة، مثل التظاهرات التي قامت بها القوى الثورية بهدف تسليم السلطة من المجلس العسكري للبرلمان المنتخب عام 2011، وتصدى لهم شباب "الإخوان" بالعنف، تحت شعار منع الفتنة وحماية البرلمان، واشتباكات قصر الاتحادية، ثم عدة أحداث في ميدان التحرير وغيرها في بدايات عام 2013. ولكن ألم يمارس بعض الشباب المنتمي للتيار المدني أي عنف؟ ألم توافق قيادات جبهة الإنقاذ وقتها على العنف الأسبوعي ضد مقارّ الإخوان المسلمين؟ وكان هناك رد فعل غريب من بعض شباب "الإخوان" على شبكة الإنترنت، عندما وجّهوا جزءاً كبيراً من غضبهم ولعناتهم ضد الحقوقيين والحركات الشبابية والثورية، واعتبروهم شركاء في ما حدث للدكتور مرسي، بسبب المواقف الناقدة والمعارضة لجماعة الإخوان عام 2013.
وقد انشغل مقال سابق لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد" (13/6/2019)، بجملة "هم ليسوا قدوة لنا"، واستنكرت أن بعض مدّعي الليبرالية في مصر لا يكترثون بحقوق الإنسان للإسلاميين أو للمعارضين عموماً، إما بحجة أنهم إرهابيون لا يستحقون الرحمة، أو بحجة أن الإسلاميين عندما كانوا في السلطة كانوا لا يكترثون بحقوق الإنسان للمعارضين أو العلمانيين (الكفار)، وكانت هناك أصوات محسوبة على التيار الإسلامي وقتها تقول إنه لا
 حقوق إنسان للكفار، ولا مساواة بين المسلم والكافر، من وجهة نظره، بل إن منتسبين للتيار الإسلامي كانوا يعتبرون أن الإعلانات الدولية لحقوق الإنسان مؤامرة صليبية على الإسلام، لما فيها من عبارات عن حرية العقيدة والحريات الجنسية والحريات الشخصية. واستنكر المقال سلوك بعض أو كثيرين ممن يتم تصنيفهم تياراً مدنياً، حيث كان بعضهم يبارك إجراءات القمع والاستبداد ضد خصومهم، وكثيرون منهم (الناصريون مثلاً) باركوا مذبحة ميدان رابعة ودعموها، مثلاً، نكاية بالإخوان المسلمين، خصومهم التاريخيين. وهناك أيضاً من رصد حالات الشماتة الجماعية والتشفّي التي كانت تمارسها لجان "الإخوان" على الإنترنت، عندما يموت أو يتأذى رمز ما ممن كانوا على خلافٍ عميق مع الجماعة قديماً. وكان هناك من يتساءل هل كان "الإخوان" يترحمون على وفاة علماني أو ليبرالي أو معارض لفكرهم، لتترحموا على محمد مرسي؟
إنهم ليسوا قدوة لنا، كل أصوات التعصب وكراهية الآخر يجب ألا تكون قدوة لنا، وإن أردت فعل الصواب وتطبق مبادئ تنادي بها، فلا تنظر لانتماء الشخص، حتى ولو كان خصماً سابقاً... رحم الله الدكتور محمد مرسي، واللهم ارحمنا جميعاً، وأنقذنا من أنفسنا.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017