تفاهة القرن

تفاهة القرن

29 يونيو 2019
+ الخط -
على الرغم من معرفتنا المسبقة بهزلية الطرح الذي سيقدمه الصبي المعجزة في مؤتمر البحرين، إلا أن الناتج كان أكثر هزلاً من التوقعات. أخرج كوشنر من جرابه خطة مفادها طرح استثمارات بقيمة خمسين مليار دولار، توزع على عشر سنوات، ونحو نصفها قروض بفوائد، وربعها استثمارات بغرض الربح، وكلها تدفعها دول الخليج لا الغرب.
لا توجد خبرات سياسية مزعومة للسيد كوشنر، وهو ما يفسّر ظنه الزائف أن في وسعه، بسهولة، حل ما عجز عنه أساطين السياسة الأميركية التاريخيون، مثل كارتر وبوش الأب وبيل كلينتون وسواهم، ولكن خبراته العقارية يفترض أن تؤهله لفهم أن عرض ثمن بخس جداً لسلعة غالية جداً لا يمكن أن يغري صاحبها ببيعها، وهذه هي تفاهة القرن حقاً!
كان بإمكانه أن يُمسك آلته الحاسبة، ويُقدر ما تدفعه الولايات المتحدة دعما عسكريا سنويا لإسرائيل ومصر، فضلا عن القيمة المعنوية لجائزة نوبل للسلام على الفترة الثانية لرئاسة صهره، ليخرج برقم يحمل أي منطق.
إذا تناولنا الحالة المصرية فمصر موعودة بتسعة مليارات دولار فقط، نحو نصفها قروض ستعيدها. إذن، نتحدث عن أقل من نصف مليار دولار سنوياً استثمارات ومنح خلال عشر سنوات؟ لا يمثل هذا شيئاً في الموازنة المصرية المثقلة.
وفي المقابل، لم تتوانَ الجهات المصرية عن إفهامه، بأكثر الطرق مباشرة، بالتخلي عن أوهامه الأولى بإمكانية التنازل عن جزء من سيناء لصالح الفلسطينيين. نقلت صحيفة "العربي الجديد" عن مصادر أن وفداً مصرياً أقنع الجانب الأميركي بالتخلي تماماً عن هذه الفكرة، واستبدالها بمنطقة تجارة حرة، وإلا فإن النظام المصري سيسقط في اليوم التالي إذا وافق عليها. وفي السياق نفسه، نقرأ السماح لحسني مبارك بالإدلاء بحوار مطول للصحافية الكويتية فجر السعيد، في مايو/ أيار الماضي، وقال فيه إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، نتنياهو، كان قد طلب منه التنازل عن أراض في سيناء لتوطين الفلسطينيين، فهدّده بأن هذا يعني اندلاع حرب بين البلدين فوراً.
ومن الواضح أن السيد كوشنر، ومن خلفه الرئيس ترامب، لا يفهمان أصلاً فلسفة الدعم المالي الدولي للفلسطينيين، الذي يحاول مساومتهم حاليا بحرمانهم منه وإعادته، لو رضخوا لأوهامه، فهذه ليست أعمالاً خيرية من قلب العالم الطيب، بل جزءٌ من تصميمها، جاء بغرض تسكين الوضع الفلسطيني، وصنع طبقاتٍ وسطى فلسطينية ما تخاف عليه، وبديله قد يكون تصاعداً في الغضب الشعبي، بوجوهه السلمية والعسكرية، الموجه ضد إسرائيل.
الحقيقة أن كل هذه التفاهة ما كان لها أن تندلع بهذا الحجم، لولا حالة الاهتراء العامة في النظام العربي، إلى حد أن يجمع مؤتمر البحرين دولا عربية، على اختلاف دوافعها للحضور، للاستماع للطفل المعجزة، وهو يقدّم بيانات وجداول لم يتم الاعتناء، ولو بإخراج فني متقن لها. حين لا تكون الشعوب مصدر الشرعية الديمقراطية والاستقرار، خصوصا في البلاد ذات الكتل البشرية الوازنة، فإن البديل هو البحث عن حبال الحياة في الخارج، أو على الأقل محاولة تمرير العاصفة إلى حين تغيّر اتجاه الريح، وهو ما يبدو أن الدول العربية تتقنه مع توالي الإدارات الأميركية.
وفي المقابل، لا يعني كل هذا التهوين من الأضرار الجسيمة التي سببتها إدارة ترامب، فإجراءاتٌ مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس، ووقف تمويل أنشطة وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وغلق مكتب منظمة التحرير، لن يتم التراجع عنها بسهولة، حتى لو لم يفز ترامب بفترة ثانية، والمناخ سيكون مؤهلا لتاجرٍ أكثر مهارة لفرض تسوياتٍ غير عادلة، وإن كانت أقل هزلية.
النظام العربي أيضاً بصورة واقعية خياراتُه بالغة المحدودية، لا خطوات راديكالية بأي اتجاه إلى الأمام أو إلى الخلف، في ظل الهشاشة الداخلية. الملفات متصلة ببعضها وإن انفصلت. لا بديل عن ديمقراطية عربية تحدّد بها الشعوب، بما فيها الشعب الفلسطيني، خياراتها الاستراتيجية الواقعية نحو القضية، وتتحمّل نتائجها.