أميركا وإيران.. خصومة سياسية

أميركا وإيران.. خصومة سياسية

26 يونيو 2019
+ الخط -
حاول محللون ومعلقون سياسيون اكتشاف الأسباب التي دفعت الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى إلغاء قراره بضرب ثلاثة مواقع إيرانية، ردّا على إسقاط طائرة "أر كيو- 4 غلوبال هوك/ الصقر العالمي" فوق مضيق هرمز فجر يوم الخميس 20 يونيو/ حزيران الجاري. قال بعضهم إنه "حكمة وحسنُ تدبير"، وقال آخرون إنه "تهيّب" من الموقف، ودان آخرون القرار "لأنه أعطى إيران نقطةً في صراع الإرادات وعض الأصابع"، لكنهم اتفقوا على رفض المبرّر الذي أعلنه: التحسّب لعدد الضحايا، لأن حساب "الضحايا" يُؤخذ بالاعتبار، وفق آليات صنع القرار، قبل اتخاذ القرار. 
واقع الحال أن قرار إلغاء الضربة مرتبطٌ بجملة أسبابٍ قريبةٍ وبعيدة، فاللحظة السياسية الراهنة استثنائية باستحقاقاتها، المحلية والإقليمية والدولية، من القمّة الأمنية في القدس المحتلة التي جمعت مستشاري الأمن القومي في أميركا وروسيا والكيان الصهيوني، يومي 24 و25 يونيو/ حزيران الجاري؛ ونتائجها المنتظرة في ضوء العرض الذي قدمه وزير الخارجية الأميركية، مايك بومبيو، للقيادة الروسية خلال زيارته لسوتشي في منتصف مايو/ أيار الماضي (تضمن تنفيذ القرار الدولي 2254، والتعاون في ملف محاربة الإرهاب و"داعش"، وإضعاف النفوذ الإيراني، والتخلص من أسلحة الدمار الشامل في سورية، وتوفير المساعدات الإنسانية، ودعم الدول المجاورة، وتوفير شروط عودة اللاجئين السوريين، وإقرار مبدأ المحاسبة عن الجرائم المرتكبة)، إلى ورشة البحرين الاقتصادية التي عقدت في المنامة يومي 25 و26 الجاري، والتي تعوّل عليها أميركا كثيرا، لتسهيل مرور الجانب السياسي من
 "صفقة القرن"؛ وهذا واضحٌ من التسمية التي أطلقتها عليها، "الازدهار من أجل السلام"، ومن الضغوط التي مارستها على دولٍ عربيةٍ لتأمين حضورها، باعتبارها عرّابة "الصفقة"، أعطي تمرير "الصفقة" أولويةً كبرى في السياسة الأميركية، إلى قمة العشرين التي تعقد في أوساكا في اليابان يومي 28 و29 يونيو/ حزيران الجاري كذلك، مرورا باجتماع "المجموعة المصغّرة" لأصدقاء الشعب السوري التي تضم أميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن ومصر، في باريس يوم 24 الجاري، واجتماع التحالف الدولي ضد "داعش" في باريس يومي 25 و26 الجاري، واجتماع حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومبعوثي الدول الغربية إلى الملف السوري في بروكسل يوم 28 الجاري. وهذا بالإضافة إلى الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي، التي أطلقها قبل أيام من أجل الفوز بفترة رئاسية ثانية في انتخابات عام 2020، وعدم وجود غطاء دولي للقرارات الأميركية ضد إيران، يمكن القول بوجود تحفظٍ دوليٍّ واسع عليها، خصوصا داخل التحالف الغربي، ما يعني أن خلفية "الإلغاء" هي التوقيت، لأن تبادل الضربات سينعكس سلبا على خطط واشنطن في هذه الاستحقاقات، من جهة، ويضعف، من جهةٍ ثانية، فرصتها لبناء قضية ضد إيران تحوز على موافقةٍ دوليةٍ تقود إلى تأسيس تحالفٍ دولي ضدها. علما أن احتمال توجيه الضربة ما زال قائما؛ وهذا ما يمكن استنتاجه من قول الرئيس الأميركي "إنه لم يُلغ الضربة التي كانت تحضّر لإيران، بل أوقف تنفيذها"، ومن شنّ "وحدات الأمن الإلكتروني الأميركية" هجمة سيبرانية/ إلكترونية على حواسيب في منظومة التحكّم بالصواريخ الإيرانية، لـ "شل" منظومة الدفاع الصاروخية؛ بتعطيل منصّات الصواريخ أو إحداث أضرارٍ فيها لا يمكن إصلاحها، وفق ما نشرته صحيفة واشنطن بوست، كإجراء مرحلي بديل.
يمكن اعتبار الاستحقاقات المذكورة أعلاه الأسباب القريبة التي دفعت ترامب إلى تأجيل الضربة. أما الأسباب البعيدة والعميقة فمرتبطة بوظيفة إيران في الاستراتيجية الأميركية في ضوء السمات التي تنطوي عليها، أولاها وأهمها طبيعة الدولة الإيرانية، دولة عريقة وذات إرث حضاري كبير وعدد سكان ومساحةً وثرواتٍ طبيعية وازنة، امتزجت فيها القومية الفارسية والمذهب الشيعي الاثنا عشري امتزاجا عميقا جعلهما وحدةً متماسكةً لا تقبل الفصام أو الانقسام، ما منحها تميّزها عن محيطها الإقليمي، ووضعها في تناغم وتعارضٍ معه؛ وحوّلها، بالنسبة للاستراتيجيات الدولية، إلى فرص ومخاطر في آن، وإلى ركيزةٍ مهمةٍ في إدارة الصراعات والتوازنات في الإقليم. ثانيها الموقع الجيوسياسي الهام، إطلالتها على الخليج العربي، وخصوصا مضيق هرمز، وبحر عُمان والمحيط الهندي، من جهة، وبحر قزوين، من جهة ثانية، ومحاددتها دولا كثيرة: العراق، تركيا، أرمينيا، أذربيجان، تركمانستان، أفغانستان، باكستان، بالإضافة إلى قربها من روسيا. ثالثها التركيبة المجتمعية وبنية الشخصية الإيرانية، بما تختزنه من إرث ثقافي وديني ومذهبي. وهذا رشّحها للعب دور في الاستراتيجيات الغربية للقيام بوظائف عديدة: تحدّي النفوذين، الروسي والصيني، في آسيا الوسطى، عصا غليظة في وجه قوى التحرّر في الإقليم، العربية منها خصوصا، ركيزة أساسية في توازن قوى إقليمي، احتياط للنفط العربي وبديل للغاز الروسي، وجعلها حاجة استراتيجية ثابتة للدول الغربية عموما، وأميركا خصوصا، وهذا يفسّر، إلى حد كبير، مغزى التعاطي الغربي المفتوح مع الجمهورية الإسلامية التي أقامها آية الله الخميني بعد ثورة 1979، بنظامها السياسي الديني، نظام ولاية الفقيه، حيث يتم التركيز على العمل على ترويضها لاستعادتها، لاستئناف دورها في استراتيجياته؛ وتحاشي مواجهة مباشرة معها قد تقود إلى تدميرها، واستنزاف عناصر القوة التي تتمتع بها ما يُفقدها الدور الذي حدّد لها في هذه الاستراتيجيات باعتبارها ركيزة أساسية للاستقرار وجزءا رئيسا في توازن قوى إقليمي.
عاد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، إلى الاستراتيجية الأميركية التقليدية: إقامة نظام 
توازن قوى في الإقليم، بعد أن كانت إدارتا جورج بوش الأب والابن خرقتاها بتبنّي الأول سياسة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق، والثاني لتغيير الأنظمة بغزو أفغانستان عام 2001 والعراق 2003، منطلقا من اعتبار التعارض السائد آنذاك ليس بين الدولتين، الأميركية والإيرانية، بل بين نظامي الجمهورية الإسلامية وإدارة المحافظين الجدد، بمغازلة إيران (رسالته إلى الشعب الإيراني بمناسبة عيد النيروز، مديحه الدور الحضاري والثقافي الإيراني، مديحه العقل الإيراني العملي والاستراتيجي، موقفه اللين من قمع الموجة الخضراء عام 2009، تواصله المباشر مع القيادة الإيرانية)، لإغوائها واستدراجها للدخول في مفاوضاتٍ حول برنامجها النووي؛ لأنه يعيق قيام التوازن الإقليمي المطلوب، ويطلق سباق تسلحٍ نوويٍّ خطر، مدخلا لرفع العقوبات وتطبيع علاقاتها بالغرب، وعودتها إلى المجتمع الدولي، على أمل أن يؤدّي هذا الاتفاق والانفتاح إلى تهيئة الظروف لإقامة توازن قوى جديد في الإقليم قائم على دعامتين: دعامة سنّية (السعودية) ودعامة شيعية (إيران).
لقد حدّدت وثيقتا الأمن القومي 2010 و2015 وخطابا أوباما في الجمعية العامة للأمم المتحدة (24/9/2013) وأكاديمية ويست بوينت العسكرية (28/5/2014)، بوضوح كامل، أسس تحرّك أميركا الخارجي، حيث ربط استخدام القوة العسكرية بشكل منفرد فقط، بمواجهة أخطارٍ تهدّد المصالح الأميركية الأساسية والحيوية مباشرة. وأما التي لا تهدّد الأمن والمصالح الأميركية مباشرة، فالتعامل معها يتم عبر رزمة إجراءاتٍ دبلوماسيةٍ واقتصادية. فقد أعلن، في خطابه في الأكاديمية، وهو الأكثر وضوحاً وتحديداً، مواجهة المشكلات والأخطار الإقليمية والدولية، التي لا تمسّ مصالح الولايات المتحدة مباشرة، ومخالفة القانون الدولي، باعتماد آلية العزل والمعاقبة، والعمل مع المنظمات الدولية ذات الصلة. وفي حال الاضطرار إلى تحرّك عسكري، يتم تشكيل تحالفٍ لذلك الغرض، وتقاسم الأعباء البشرية والمادية. وهو ما يتبنّاه الرئيس الحالي، ترامب، على الرغم من هجومه الدائم على إدارة أوباما، ويعمل على تنفيذه، وإن بكثيرٍ من الفظاظة والتهوّر، زادته توازنات الداخل الأميركي؛ ومستدعيات الحملة الانتخابية، تردّدا وتقلبا، عكسه الإعلان المتكرّر بعدم رغبته في الذهاب إلى الحرب مع إيران؛ والانتقال من طرح شروطٍ قاسية للتفاوض معها (شروط بومبيو الـ 12) إلى الإعلان عن استعداده للتفاوض معها من دون شروط مسبقة، ومن التلويح بإبادة إيران إلى الدعوة إلى اتفاق معها تحت شعار "دعنا نجعل إيران عظيمة مجدّدا"، و"أنه سيكون أفضل صديق لإيران"، و"أنها ستصبح من جديد دولة ثرية" إذا تخلت عن مساعي امتلاك سلاح نووي، وقبلت بالتوصل إلى اتفاق نووي جديد.
الدولة الإيرانية ليست عدوا لأميركا، كما روسيا والصين، وفق الاستراتيجية الأميركية، والخلاف الراهن معها مرتبط بسياسات يتبنّاها النظام الإيراني، لا تتسق مع التوجهات الأميركية في الإقليم؛ والمطلوب العودة عنها، والانخراط في توازن قوى إقليمي جديد. وهذا مغزى شعار "تغيير سلوك النظام الإيراني".