دلالات الجدران في زمن العولمة

دلالات الجدران في زمن العولمة

25 يونيو 2019
+ الخط -
من بين الإنجازات التي تنسب إلى سرجون الأكادي، مؤسس أول امبراطورية في شرقنا القديم (يعتقد أنه حكم ما بين 2334 ـ 2279 ق.م.) أنه كان يدمّر أسوار ممالك المدن التي ينتصر عليها، ويدخلها إلى دائرة حكمه، في إشارة واضحة منه إلى أن عهد دولة - المدينة، أو مملكة - المدينة، قد انتهى، وأن المرحلة الجديدة، وفق معايير ذلك الوقت، تستوجب هدم الأسوار، والامتداد نحو المناطق الأخرى التي تضم ناساً يتحدّثون لغاتٍ أخرى، ويعبدون آلهة مغايرة. فكان هو وخلفاؤه، خصوصا نارام سين (2261 ـ 2224 ق. م)، يتفاخرون بوصولهم إلى الساحل السوري، وانتصاراتهم في آسيا الصغرى، والوصول إلى مياه الخليج حيث غسلوا أسلحتهم فيه. وفي عصرنا هذا، كان لإزالة جدار برلين رمزية خاصة، فقد اعتقد الناس أن الحواجز الواقعية والنفسية، وتعبيراتها الأيديولوجية، قد باتت جزءاً من الماضي، وأن العالم قد أصبح على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة العولمة، وانتشار القيم الليبرالية، والتواصل 
على مختلف المستويات، خصوصا الاقتصادية والثقافية، وحتى المعيشية منها. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، أصدر فوكوياما صرخته المدوية: نهاية التاريخ، اعتقاداً منه أن النمط الحضاري - الثقافي المعيشي الغربي قد غدا، انطلاقاً من انتصار الغرب التاريخي الاستثنائي، هو النمط العالمي. وأن مسألة اقتداء المجتمعات الأخرى به صارت مسألة وقت، وهو الأمر الذي لم يوافقه عليه هنتنغتون الذي كان حذراً ومتشائماً، وتكهّن، في المقابل، بصراع الحضارات بين مختلف الأقاليم والمناطق، معتبراً أن الصراع المحوري في المرحلة المقبلة سيكون بين النموذج الغربي من جهة، والنموذج الإسلامي بالدرجة الأولى. 
ولكن الذي تبين لاحقاً أن تطورات الأحداث الواقعية، واتجاهاتها وتعقيداتها، لا تسير دائماً وفق تنبؤات الباحثين واستشفافاتهم، على الرغم من كل الحرص البحثي الذي يُبدونه، والرؤية الاستشرافية النافذة التي يتمتعون بها، فالروس استغلوا ظروف الارتباك الأميركي، والعطالة الأوروبية، ليعودوا إلى مسرح الأحداث الدولية من بوابة الأزمات الإقليمية، لا سيما السورية والأوكرانية، وعلى الأرجح ستتسع الدائرة، لتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا.
أما الصينيون فقد استغلوا مناخات العولمة، لينتشروا في كل مكان، عبر التقنية الرخيصة والمتطورة في الوقت ذاته، والمشاركة في ملكية شركات عملاقة، كانت في ما مضى من رموز السيادة الوطنية في مجتمعاتٍ عديدة. ولم يتوقف الطموح الصيني عند ذلك الحد، بل تجاوزه ليشمل امتلاك العقارات، وحتى الموانئ والجزر، والإصرار على امتلاك أحدث التقنيات الخاصة بالبرامج الإلكترونية، وأنظمة تشغيل وسائل الاتصال. ولعل الأزمة الكبرى المتمحورة راهناً حول هاتف هواوي، وتفرّعاتها، تعكس واحدا من جوانب الصراع الضمني الصيني والغربي عموماً، والصيني والأميركي تحديدا، فالموضوع لا يقتصر على مجرد إجراء تعديلات في الميزان التجاري، وحماية الاقتصاد عبر الإجراءات الجمركية، وإنما يتجاوز ذلك، ليصل 
إلى حد الصراع بشأن التقنية المستقبلية التي ستمد صاحبها بعوامل القوة والتحكّم، والقدرة على إزاحة الخصوم الفعليين والمحتملين.
ولعل هذا الأمر يفسّر توجه الصين نحو بناء قوتها الدفاعية الذاتية، وتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع روسيا بصورةٍ أقوى من أي وقت آخر؛ وذلك تحسباً لضغوط مستقبلية قد تتعرّض لها من الولايات المتحدة وحلفائها، كما أن الصراع المعني يلقي الضوء على مغزى إبراز أهمية منتدى شنغهاي الاقتصادي الذي يحاول استقطاب القوى الإقليمية الأساسية، بما في ذلك تلك المحسوبة تقليدياً على الغرب، كتركيا، وذلك في سعي واضح، هدفه تأكيد التعدّدية القطبية في العالم، الأمر الذي سيشكك في الزعامة المطلقة للولايات المتحدة على المستوى العالمي، كما سيؤكد أن التاريخ لم ينته بعد، بل يتابع سيره في مداراتٍ أخرى، وبوتائر وأساليب ربما تكون غير معهودة.
فالعولمة المطلقة، إذا صحّ التعبير، باتت تمثل تهديداً للمصالح الوطنية، وفق تقديرات محللين استراتيجيين عديدين ومنظورهم. وما يدعم هذا التوجه أكثر هو صعود الحركات القومية الشعبوية في دول غربية عديدة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية نفسها، حيث دعا رئيسها إلى بناء جدار فاصل مع المكسيك، لمنع دخول مزيد من المهاجرين، وتحاشياً للمشكلات التي تترتب على دخولهم. كما أن اجراءات الحماية الجمركية التي اعتمدتها الإدارة في مواجهة الصين، وشملت الحلفاء الأوروبيين، هي الأخرى تمثل جداراً مع السوق العالمية، يتكامل مع إجراءاتٍ أخرى شملت منظمة التجارة العالمية، والجهود الدولية المشتركة لحماية البيئة. وقد ظهرت، في هذا السياق، دعوات أوروبية متشدّدة، يشكك أصحابها في جدوى الاستمرار ضمن الاتحاد الأوروبي الذي يعتبره هؤلاء معرقلاً للمبادرات الوطنية، ومستنزفاً للطاقات، ومنافساً للسيادة الوطنية. وبالانسجام مع هذا التوجه، يرى بعضهم أن الخطوة البريطانية، على الرغم مما أحاط بها من لغط وارتباك، لن تكون الخطوة الأخيرة في أجواء تنامي أدوار القوى اليمينية العنصرية داخل البرلمان الأوروبي نفسه، وهي قوىً لا تخفي توجهاتها السلبية نحو الاتحاد ومؤسساته وسياساته، خصوصا في ميدان الهجرة.
وما يدعو إلى مزيد من التمعّن في مغزى الجدار الترامبي، لا يتمثل في أسبقيته الزمنية، فقد
 سبقه الجدار الإسرائيلي الذي يفصل بين المناطق الفلسطينية وتلك التي تعتبرها إسرائيل جزءاً من سيادتها. وهناك أيضا الجدار التركي على الحدود مع سورية، ففي حين أن الاعتبارات القومية والأيديولوجية محدودة النطاق والأفق هي التي تتحكّم بالجدارين، الإسرائيلي والتركي، فإن خطوة الجدار الأميركي أكثر رمزيةً وتأثيراً، فهي تكشف عن تزعزع ثقة القوة الأكبر في العالم بنفسها، أو أنها تلقي الضوء على جهودٍ استباقية، هدفها مصادرة التهديدات المحتملة التي تُنذر بها التكتلات الدولية والإقليمية خارج نطاق الدائرة المعهودة للنفوذ الأميركي، أو بكلام أوسع، خارج نطاق المجال الحيوي الغربي بصورة عامة، فهل سيفتح التحالف الصيني- الروسي الذي لم تتحدّد ملامحه النهائية بعد، الآفاق أمام نفوذ نوعي لقوى الشرق، لتثبت ندّيتها في مختلف الميادين، لا سيما التقنية والعسكرية والاقتصادية منها؟ أم أن الغرب ما زال يمتلك من المقومات والإمكانات التي تمكّنه من الاحتفاظ بتفوقه، وعرقلة جهود المجتمعات الأخرى التي لا تكتفي باقتسام الريادة، بل تعمل، وإنْ بأساليب القوى الناعمة، للظفر بها، لتصبح فاعلاً مؤثراً، لا مفعولاً به، متأثراً منفعلاً؟
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا