من أجل أمجد ناصر

من أجل أمجد ناصر

24 يونيو 2019

(إميل منعم)

+ الخط -
لم يكن موقفاً محتملاً على أي من الأصدقاء الذين احتشدت القاعة بحضورهم في حفل تكريم ولقاء الشاعر أمجد ناصر، بالنظر إلى وضعه الصحي الراهن، وقد اختلفت ملامحه كلياً بفعل المرض اللعين. بدا أمجد متعباً لاهثاً يلتقط أنفاسه بصعوبة، ولكن ظل مبتهجاً متخفّفاً متيّقناً من مقدار الحب، كطفل يتيم فوجئ بحفل عيد ميلاده، والأصحاب يغنون له، متمّنين له سنة حلوة لأنه الجميل. ترقرقت الدموع في المآقي، وهو يطل على أحبته الكثيرين في عمّان، وقد قدموا مشاركين في الاحتفال بحياة الشاعر الكبير والإنسان النبيل الذي أثر على شعراء عديدين، بلغته الرشيقة اللاذعة، وخياله الجارح المنفلت، وثقافته الواسعة، ومواقفه السياسية المبدئية المشرفة. والأهم حضوره الإنساني الدافئ والحميم.
كانت أمسية أردنية فلسطينية عربية جمعت الأضداد من الزملاء والأصدقاء القدامى الذين فرّقتهم المواقف السياسية، إثر قيام الثورة السورية التي ظل أمجد مناصراً لها، انطلاقاً من انحيازه الغريزي لحقوق الشعوب، مستلبة الإرادة في الحرية والكرامة. مفارقة تستحق التوقف والتأمل، حين اجتمع الخصوم والأضداد الذين لم يلتقوا منذ سنين تحت سقفٍ واحدٍ، عنوانه محبة أمجد، والخوف عليه، والتعاطف الكبير مع أوجاعه الكثيرة، وباتفاق ضمني مترفع عن رواسب عتيقة، استقرت في النفوس. وضعوا خلافاتهم الحادّة والمفصلية جانباً، وحاولوا تجاوزها إلى حين، من أجل عيني أمجد، البدوي الجميل الذي لم تزده سنوات الغربة الطويلة في لندن، إلا أصالةً ونقاء، وهو الفلسطيني من أصل أردني الذي حمل فلسطين بين جوارحه همّاً وأملاً ووجعاً، بحسب الشاعر غسان زقطان، رفيق الماضي البعيد الذي شارك في كلمة حملت الكثير من النبل والوفاء، ألقاها غاصّاً بالدمع، محاولاً التماسك، وهو يستحضر بحنينٍ وأسىً لحظات الاندفاع والجنون والحب والجمال، ويستذكر أيام الصبا والشباب التي جمعته وصديق العمر، الجالس قبالته على مقعد متحرّك، مبتسماً بحنو، وقد ضاق عن توقه لاحتضان الأحبة الذين أحاطوه كسوار من وفاء وأمل بشفاء مرتقب.
كان المشهد شاقّاً على روحي المتعبة، وأنا أتذكر لقائي الأول بأمجد، في مطلع التسعينات في الدار البيضاء، على هامش مؤتمر اتحاد الكتاب العرب. لقاء ملتبس لم يخلُ من مناكفة، لم يصدّق أن مصادفةً ما لم تجمعنا قط، على الرغم من أننا ذات زمن هارب، كنا نسلك الطريق نفسه إلى المعسكر في مدينة الزرقاء، حيث مدرسة الثورة العربية للبنين، تجاورها مدرسة الحسين الثانوية للبنات. لن أنسى معاملة الأخ الكبير الحنون الحريص التي غمرني بها، ونصائحه المخلصة الثمينة التي قدّمها من دون فذلكة أو محاولة وصاية، عانيت كثيراً منها في مطلع مسيرتي الأدبية، عبر دروب سالكة بصعوبة اعترضتها، شأن زميلاتي، عراقيل كثيرة في ظل وسط أدبي لا يخلو من عدائية وتوجس وريبة، ذكوري النزعة آنذاك، يعاني، في معظمه، من الفصام والنفاق وأوهام التفرد والفوقية.
كان أمجد من القلة النادرة التي احترمت الأنوثة، وتعاملت مع المرأة الكاتبة باحترام ورقي وحضارية، انسجاماً مع قناعته الشخصية بدورها وحضورها. تجلى ذلك في افتخاره الدائم بمنجز صغيرته يارا، وتبرعه طوعاً بكليته إلى رفيقة عمره وصديقته هند. حين زرته في مقرّ عمله السابق في صحيفة القدس العربي في لندن، شاهدت بأم العين مدى تفانيه في رعاية المواهب الجديدة، وإفساح الفضاء لها للتعبير عن ذاتها. كان يوماً جميلاً، ما زال ماثلاً في الذاكرة، قضيته بصحبته وزوجته هند، السيدة النبيلة المحبّة. نتسكع ونثرثر في كل شيء، نجوب شوارع لندن، غرباء نرطن لغةً غريبةً، لا يحبها الناس في تلك البلاد. لمست مقدار الحنين إلى الوطن الذي يسكن قلبه، على الرغم من الخذلان وخيبة الأمل. أحسست بمدى سخاء روحه المرهفة، المكتظة بالحب والفرح والاندفاع باتجاه الحياة التي عشقها وطمح لها، بسيطة بريئة بلا وجع..
لن يغادرنا الأمل يوماً بأن تجود علينا هذه الحياة بشفاء ليس مستحيلاً، كي يواصل أمجد بحثه الفضولي البارع، سعياً لا ينقطع إلى اكتشاف بواطن الجمال الكامن فيها.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.