حين يهزم ترامب نفسه

حين يهزم ترامب نفسه

24 يونيو 2019
+ الخط -
صبّت إيران ماء بارداً فوق رأس الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بإسقاط الطائرة المُسيرة الأميركية في مياه الخليج، فظهر الارتباك والحيرة على ترامب وأركان إدارته، إلى حد التراجع عن قرار الرد عسكرياً، قبل دقائق من التنفيذ. وتغيرت النغمة سريعاً، من التهديد والوعيد إلى التلويح والتلميح. وقال ترامب إن احتمال الخيار العسكري لا يزال قائماً، لكنه "ليس في عجلة من أمره"! فبدا المشهد كأن ترامب هو الذي سقط في مياه الخليج، فلا يعي ما يقول، ولا يدرك ما يجب فعله.
ذلك الارتباك الذي ساد دوائر القرار الأميركية يؤكد مجدداً قلة الخبرة وضيق الأفق لدى حزمة القيادات والمستشارين حول الرئيس ترامب. ويكشف أن قصور العقلية الترامبية في إدارة السياسة الأميركية، لا ينبع فقط من اتباع منهج التصعيد بغرض التفاوض، وإنما من كونه الأسلوب الوحيد الذي يعرفه ترامب الذي لا يملك رؤية أو تصوراً محدّداً لما يجب أو يمكن عمله في حال فشل تلك الطريقة، فهو يجيد التصعيد مرحلياً، وجاهز للتفاوض وإبرام الصفقات، لكنه أبداً لا يملك بدائل، حال إخفاق التفاوض أو الرد على تصعيده بالمثل، أو بأكثر منه كما فعلت إيران، فحين رفضت كوريا الشمالية الخضوع لشروط ترامب، تأزّم الموقف وتوقفت المفاوضات، لأن ترامب لم يكن لديه تصور عما يمكن عمله حال عدم انصياع بيونغ يانغ. ربما لأنه لم يكن يتوقع هذا الاحتمال، وتوهم أن تهديداته باستخدام الزر النووي كانت كافية كي تهرول كوريا الشمالية إلى التفاوض والتنازل. وعلى الرغم من الفشل، راح يكرّر الرهان مع إيران، فبعد أن التقطت إيران إشارة التصعيد الكلامي الأميركية، وردت عليها بمثلها كلامياً، وقعت عملية تخريب أربع سفن في الخليج، فإذ بترامب يتراجع عن تهديده ووعيده، وكما يقول المصريون باللهجة الدارجة "جاب ورا".
كانت تلك أولى دلائل ضعف ترامب، أو بالأحرى مؤشرات عجزه عن الاستمرار في لعبة عض الأصابع مع طهران. بل لم يجرؤ ترامب، أو أي من المسؤولين في إدارته، على توجيه اتهام صريح لطهران بالتورّط في عملية التخريب الأولى. صحيح أن ترامب فعلها بعد شهر، واتهم إيران بالضلوع في عملية التخريب الثانية التي استهدفت سفينتين تجاريتين في بحر عُمان، إلا أن التصريح بالاتهام سرعان ما تبعته إشارات أخرى ملتبسة، تجمع بين التهدئة والغموض.
قالت واشنطن إن كل الخيارات متاحة، ثم بثت فيديو لزورق إيراني ينزع ألغاماً من إحدى السفينتين. من دون اتهام صريح أو توضيح كيف فسّرت دوائر القرار في واشنطن هذا السلوك الإيراني، سلباً أو إيجاباً. في حين لم تنكر طهران الواقعة، وقالت إن الزورق كان يساعد في إنقاذ السفينتين.. فبدا التضارب الأميركي أقرب إلى ارتباك وقلة حيلة أكثر منه إلى تعمّد الغموض أو إخفاء النوايا.
لم تقصف إيران الطائرة المسيرة الأميركية، لدخولها المجال الجوي الإيراني، فحتى لو وصلت الطائرة إلى قلب العاصمة طهران، لم تكن الأخيرة لتجرؤ على إسقاطها، إلا ثقةً في عجز ترامب عن الرد، وهو ما تأكد بالفعل من تعاطيه الخجول مع العملية، ليس بعدم الرد عسكرياً، بل لأن أسلوبه في التصعيد الكلامي انكشف مسبقاً، فلم يعد لتهديداته صدقية، وإن أرغد وأزبد. وبعد هذا الانكشاف، حتى لو اندفع ذات مرة ووجه ضربة عسكرية لطهران، فستكون عملية محدودة وخجولة. ولن يكون ذلك دليلاً على القوة أو الحزم، بل هروباً إلى الأمام، لمداراة ضعف سياسي وعجز جيواستراتيجي. وبقراءةٍ واتساقاً مع شخصية ترامب، الأرجح أن يعود سريعاً إلى أداة العقوبات الاقتصادية والضغط السياسي، مع مغازلة الإيرانيين واستمالتهم نحو التفاوض، سراً ومن دون حرج، أو علناً بلا خجل. أما إسقاط الطائرة المسيرة الأميركية، فقد تم بأيد إيرانية، لكنه مسؤولية أميركية بامتياز، فقد أسقط ترامب نفسه بنفسه، قبل سقوط "الدرون" في مياه الخليج.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.