تونس.. صعود الشعبوية

تونس.. صعود الشعبوية

24 يونيو 2019

(Getty)

+ الخط -
ليس غريباً، في ظل حالة التشظّي الحزبي الذي تعرفه الديمقراطية التونسية الناشئة، وعجز الأحزاب التي تولت السلطة عن الإيفاء بوعودها، أن تشهد البلاد صعود وجوهٍ جديدةٍ لا يُعرف عنها تاريخ سياسي سابق، ولا المشاركة في النضال أيام الاستبداد، مستفيدة من الوضع الاجتماعي المتردّي الذي يصعب أن يحتمله الجمهور العام.
ترافقت هذه الموجة المتصاعدة من توظيف الأزمات الاجتماعية مع خطاب شعبوي، يصل إلى حد الابتذال، ويقدّم حلولاً وهمية في المجالات المختلفة، وتستند إلى جمعيات تتمتع بتمويلاتٍ ضخمة، بالإضافة إلى محاولتها الاستفادة إلى الحد الأقصى من أدوات التواصل الاجتماعي، من أجل تسويق شعارات غير واقعية، ولا يمكن تحقيقها في ظل الوضع الاقتصادي المهتز الذي تعرفه تونس حالياً.
الميزة المركزية للخطاب الشعبوي في تونس الحالية (يختلف إلى حد ما عن خطابات شعبوية مماثلة في أوروبا والولايات المتحدة) أنه يستبطن شكلا من السذاجة السياسية الحادّة، ومحاولة استغفال الجمهور العام، والتصرّف وكأنما أصحابه يملكون حلولا سحرية، يمكنها الخروج بالبلاد من أزماتها، من بطالة وعجز في الميزان التجاري، وتدهور في المجالات الأساسية، كالتعليم والصحة، مع أن هذه القوى هي ذاتها لا تملك كفاءاتٍ لإدارة الدولة، ولا تقدّم تصوراً اقتصاديا واجتماعيا واضحا، وتكتفي بومضاتٍ مكثّفة على مواقع التواصل الاجتماعي، لتسويق نفسها لدى جمهور غاضب من نخبته العاجزة، فهذه الظاهرة هي رسالة فعلية لكي تنتبه القوى الحزبية في تونس إلى حالة التردّي السياسي الذي أوصلت البلاد إليه، وأن شعارات الأيديولوجيا واجترار صراعات قديمة لم تعد تعني الجيل الجديد في شيء، خلافا لما كان الوضع عليه قبل الثورة، ففي ظل الاستبداد، يملك العمل السري رونقا، وتصبح للأيديولوجيا السياسية جاذبية تجعل النفوس تهفو إلى أصحابها، فكل ممنوع مرغوب. وفي ظل الديمقراطية، تتراجع أهمية الخطاب المؤدلج، وتصبح أسئلة الشعب تتعلق بحل مشكلات حياتهم اليومية. ولهذا تمكن ملاحظة أن الأحزاب القومية واليسارية والقوى الإسلامية المتشددة تراجع تأثيرها بشكل تدريجي في تونس ما بعد الثورة، بل أصبح بعضها هامشيا تماما، ربما لا يدري غالبية الجمهور أن حزب التحرير ينشط علنا في تونس، ويصدر صحيفة أسبوعية لا يهتم بها أحد 
تقريبا.
الشعبوية الحالية في تونس هي تعبير عن إفلاس النخبة السياسية التي أدارت البلاد منذ الثورة، ودعوة غير مباشرة إلى العودة إلى الشعب، في غياب مشروع جماعي، يصنع الحلم الذي يجمع كل القوى السياسية حوله، بغض النظر عن الخلافات المعتادة في تقدير ما ينبغي فعله مرحليا. المشكلة أن من يقف وراء هذه المجموعات الشعبوية، وخلافا للنموذج الأوروبي، هي قوى دولية، تريد، في بعض الأحيان، توجيه المسار السياسي للبلاد، وهو أمر يذكّر بقوى اليمين التي صعدت في أميركا اللاتينية، بدعم من الولايات المتحدة، لمواجهة اليسار الذي كان مثخنا بالصراعات، فالحالة السياسية في تونس الحالية جمعت بين أزمة اقتصادية واضطراب اجتماعي، ولكن تمظهرها السياسي ربما هو الأخطر، لأن محاولة توظيف الأزمات للصعود انتخابيا، وربما لقطع الطريق على الانتقال الديمقراطي، هو ما يثير القلق الفعلي، وهو ما ينبغي أن تتنبه إليه النخبة السياسية.
هذا إذا كانت هناك فعلا شريحة سياسية واعية ومدركة طبيعة المخاطر التي تحدق بالمرحلة الانتقالية، ولا يمكن الادّعاء أن التعديلات التي تمت إضافتها إلى القانون الانتخابي يمكن أن تكون حلاّ، على الرغم من أنها ستحدّ بالتأكيد من فرص الذين يستثمرون في الأزمات، ويبقى المدخل الفعلي لفهم المشكلة الحالية إنما هو في التقاط الرسالة وراء صعود خطابٍ يُسوّق للوهم، ويُكثر من بذل الوعود، ويتلاعب بالعواطف، وهو ما يقتضي فسح المجال لمزيد النقاش العام، وفضح مثل هذه التوجهات، وكشف قصورها وعجزها، فمن المعتاد أن ترتبط الشعبوية بالمراحل الانتقالية، أو بالأزمات الحادة التي تعصف بمجتمعٍ ما، نتيجة فشل السياسات العامة التي تديرها الأحزاب الكبرى، فهي جزءٌ من الأعراض العامة للأزمة السياسية وليست حلا لها.
وتظل الديمقراطية المدخل لمحاربة الشطط الفكري والخطابات المُخادعة، وما من علاج لمساوئ الحرية إلا بمزيد الحريات.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.