الإسلاميون وحرية التعبير: إشكالية مصطنعة

الإسلاميون وحرية التعبير: إشكالية مصطنعة

22 يونيو 2019
+ الخط -
وردت في أحد برامج قناة تلفزيون العربي، الأسبوع الماضي، عبارات مسيئة للصحابة، رضوان الله عليهم. وبحسب علمي، فإن هذا البرنامج المتخصص جداً لا تشاهده إلا قلة من النخبة من أهل البصر، ممن لا تجوز عليهم هذه الترهات. إلا أن العبارات إياها انتشرت فجأة، فملأت الأسافير بعد أن روّجها بعض من يدّعون الغيرة على الإسلام! وقد ذكّرني هذا بأحداث كثيرة سابقة، كان فيها المسلمون أداة ترويج سفه القول، وجلب الشهرة لكل من يسيء إلى الإسلام ورموزه، كما كان الحال مع سلمان رشدي وكتابه "آيات شيطانية" (1988)، فقد جندت الجالية الإسلامية في بريطانيا وقتها نفسها لترويج المقاطع المسيئة من تلك الرواية بكل لغة، وأثنت بترتيب المظاهرات والمسيرات للمطالبة بحظر الرواية! وبالطبع، كانت تلك هدية مجانية لكاتب الرواية وناشرها، حيث أصبح على كل لسان وكل شاشة تلفاز.
أذكر وقتها أنني لم أقرّر أن أقرأ الرواية حتى اليوم الذي أعلن فيه آية الله الخميني إهدار دم سلمان رشدي. عندها انتقلت الرواية من كونها موضوع نقاش ثقافي إلى صدارة الأخبار. وكنا حين ننتقد الرواية للرأي العام الغربي نواجه السؤال: هل قرأتموها؟ فنعترف بأننا لم نفعل. عندها ذهبت إلى المكتبة المحلية لاستعارة الكتاب، لأنني لم أرد أن أدفع ثمنه، فوجدت قائمة الانتظار طويلة جداً. في نهاية المطاف حصلت على الكتاب من مكتبة صغيرة، ووجدته مملاً إلى حد الألم. ولكنني اضطررت إلى قراءته صفحة صفحة. وما زلت أتأسف على الحملة التي دفعتنا إلى ذلك، وشاركنا فيها على غير هدى، فهي لم تفد شيئاً سوى تشويه سمعة المسلمين، ووصفهم بأنهم أعداء لحرية التعبير. فقد خسرنا ثلاث مرّات: مرّة حين روّجنا رواية كاسدة وأكسبنا صاحبها الملايين، وثانية حين أظهرنا الإسلام بأنه يريد إسكات صوت الآخرين، وثالثاً حين فشلنا في ذلك الإسكات.
يمكن أن يقال الشيء نفسه عن ناشري الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية التي قصد بها استثارة 
المسلمين، وصدرت في مجلةٍ لا يطّلع عليها غالبية الأوروبيين، ناهيك عن بقية أهل المعمورة، لأن لغتها محصورة في بلد واحد. ولو اتبع أهل الإسلام الوصية القرآنية في قوله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"، وقوله جل وعلا "فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، لما نالت الصحيفة المغمورة ما نالت اليوم من شهرةٍ وصيت.
هناك فرقٌ بين هذه الحالات وواقعة برنامج "عصير الكتب" في تلفزيون العربي الأسبوع الماضي. هنا لم يكن قصد البرنامج، ولا المحطة، الاستفزاز أو الإثارة، فليس من سياسة القناة الإساءة إلى الإسلام، بل بالعكس فهي تعتز بالإسلام، وهي من القنوات القليلة في هذه الأيام التي يجد على شاشتها الإسلاميون نافذةً يتنفسون عبرها، وتدافع دائماً عن حقهم في الحرية والوجود. صحيحٌ أنها لا تتبنى أطروحاتهم في كل حالة، وليس ذلك مطلوباً منها. وقد اعتذرت القناة عن ما حدث، وحذفت الحلقة المعنية من موقعها. وعليه، من غير المفهوم أن تنشر فئة بعينها المقاطع المحذوفة، بكل الوسائط، ثم يصرخ صارخهم بالويل والثبور، متهمين غيرهم بأفعالهم!
ولم يكن على القناة الاعتذار عما قيل، خصوصاً أنها لا تتبنّاه، خصوصا بعد أن روّجه بعضهم على كل منبر وموقع. وإنما أصبح الواجب عليها إتاحة الفرصة للرد على هذه المقولات الظاهرة التهافت، والتي أراد منها صاحبها المغمور شهرةً ما كان ليحصل عليها لولا التنطع الخاطئ في غير محله. وعلى كلٍّ، لم تكن من سنة الإسلام إسكات الأصوات المعارضة، بل مواجهتها بالحجّة والعقل، فنحن اليوم نتلو تهما وإساءاتٍ كثيرة وجهت إلى الدين الإسلامي ورسوله، وحتى إلى الله سبحانه وتعالى قرآناً نتعبّد به صباح مساء. نسمع قول بعضهم: "يد الله مغلولة"، وقول المنافقين عن الرسول "هو أذن"، وقولهم: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، إلخ..، إلخ. وقد كان واجب من تصدّوا لهذه الحملة المصطنعة أن يتولوا دحض هذه الفرية السخيفة، بدلاً من تردادها والاحتفال بها، كما لو كانت من الأحاديث الصحيحة، واستخدامها لمهاجمة منبرٍ لم يتبنّها أو يدعمها، وليس من ديدنه ترويج مثلها. وما 
تزال كل نوافذه مفتوحة لمن شاء أن يحق الحق ويبطل الباطل.
ولكن يبدو أن طوائف وفئات "إسلامية" أصبحت أكثر اجتهاداً في الإساءة إلى الإسلام منها في الدفاع عنه، فقد رأينا الأخطاء التي ارتكبتها الحركات الإسلامية المتعدّدة في مصر، خصوصاً السلفية منها، حيث عمقت الشقة بين المصريين، بدل تقريب وجهات النظر بتشدّدها، وزايدت على الإسلاميين المعتدلين، قبل أن تتحول، في طرفة عين، إلى دعم الانقلاب على الشرعية ضد من زايدت عليهم! رأينا في بلاد الحرمين كذلك من كان يحرّم ما أحلّ الله تنطعاً (وهو في صريح القرآن جرمٌ لا يقل عن تحليل الحرام)، ثم أصبح اليوم يؤيد كل منكر يأتي به الحاكم، ولو كان الكذب وقطع الأرحام وموالاة أعداء الأمة، وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. (هل نذكر هؤلاء بوعيده تعالى بعذابٍ شديد لأمثال هؤلاء في الدينا والآخرة، وهو لا يخلف الميعاد؟) وفي العراق وسورية ولبنان، أساءت الحركات المتطرّفة، من شيعية وسنية، إلى الدين بالانحياز إلى الاحتلال الأجنبي حيناً، والدكتاتورية الطائفية حيناً آخر، وفي حالاتٍ كثيرة، الاثنين معاً. وقد رأينا كيف أن الحركات المتشدّدة، مثل القاعدة وجبهة النصرة و"داعش"، زعمت الدفاع عن أهل السنة، ولكنها دمرتهم ودمرت معهم البلاد ومصالح العباد. هاجمت هذه الحركات الثوار والمواطنين الأبرياء في العراق وسورية أكثر مما هاجمت الأنظمة أو الاحتلال، ثم انتهى بها الأمر أنها أصبحت تحتمي بالمدنيين الذين زعمت أنها جاءت للدفاع عنهم، فهذه الحركات، وما بقي منها، تختبئ اليوم وسط المدنيين، ولا تخرج لقتال عدو، بعد أن ملأت الدنيا صراخاً وصياحاً بحب الجهاد وطلب الشهادة، ولكنهم يتمسّكون بالدنيا وحطامها ومغانمها، ولا يتمنون الموت أبداً، ناهيك عن مواجهته، وهو ملاقيهم.
وقد رأينا في ما حصل في السودان من جرائم باسم الإسلام، حتى أصبح كل عاقلٍ يخجل من أن يسمّى إسلامياً، ويتنصّل منها. ولم يحدث هذا اليوم، بل إن الشيخ ياسين عمر الإمام، رحمه الله، صرّح، منذ قرابة عشرين عاماً، بأنه أصبح يخجل من أن يدعو حتى أحفاده إلى الانضمام للحركة الإسلامية التي أفنى عمره في بنائها والذود عنها، بعد أن أصبح مسلك الحركة وقادتها 
مما يخجل بالفعل.
ولعل الحملة أخيرا ضد تلفزيون العربي تسير على النهج الانتحاري نفسه، فتسيء للإسلام ومن يزعم الحديث باسمه أكثر مما تسيء إلى القناة المتهمة. والدليل ما رأينا من تلقف أبواق دول الحصار المعروفة لها، والاحتفال بها. ولا نريد أن نتحدث كما يفعل هؤلاء عن مؤامرة واختراق ومكايد وموالاة لكتائب بن سلمان، لأن الأمر أسوأ من ذلك، حيث إن بعضهم يهلكون أنفسهم من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فلنفرض جدلاً أن تلفزيون العربي يسعى إلى ترويج العلمانية كما يقال، فهل هو القناة الوحيدة العلمانية في العالم الناطقة بالعربية، أم أن هناك مئات غيرها؟ وقد ذكّرني هذا بندوة عقدها ما يسمى حزب التحرير في لندن في منتصف التسعينيات عنوانها: "السودان وإيران: دول كفر". وقد قلت لمن نقل إلي إعلان هذه الفعالية: لو افترضنا صحة مقولته فإن الحديث عن كفر الدول يجب أن يبدأ من كوريا الشمالية وأمثالها، حتى يصل إلى دول ترفع راية الإسلام بجهل أو غيره.
ولا أحد يجادل بأن تلفزيون العربي لم يقل يوماً بأنه يرفع راية الإسلام، ولكنه لا يحاربه، لا سراً ولا جهراً، بل بالعكس، يفتح منبره لمختلف الآراء، مع غير قليل من التحيّز لمن يدافع عن الإسلاميين ضد العسف والظلم. كذلك فإن القناة، والمنظومة البحثية والمعرفية المرتبطة بها، لا تروّج العلمانية ولا غيرها، بل هي تُخضع العلمانية والأيديولوجيات الأخرى لنقد علمي صارم، وتشجّع على فكر نقدي واعٍ ومنفتح تجاه كل المقولات، وتخاطب أولي الألباب بدون وصاية.
وفي عالمنا العربي المعاصر، لا توجد سوى منابر إعلامية قليلة ذات شأن تدعم الحرية للجميع، وتدعم مطلب الإسلاميين الشرعي في المشاركة السياسية. وقناة تلفزيون العربي على رأس هذه المنابر، فوق أنها من القنوات القليلة التي حققت النجاح والمكانة، وتفوّقت على غيرها. فكم من قناة ترفع راياتٍ وتكثر من الضجيج، ولكنها لا تغني إلا قليلاً. وهذ ما يبعث على الشك في هذه المعركة في غير معترك. فإن منابر الضلالة والتضليل معروفة، سيْما أهلها في وجوههم، وهم معروفون بلحن القول. ومما يعرفهم سرورهم وابتهاجهم بالحملة الجائرة الحالية على تلفزيون العربي. وكل ما يسرّ هذه الفئة الضالة المضلة، ويشرح صدور الجهات المعروفة بترويج الباطل بدون مساحيق، هو باطلٌ بدون الحاجة إلى البحث في دوافع أصحابه أو ضعف حججهم.
هناك حاجة بالفعل لـ"صحوة" إسلامية حقيقية بين من يسمّون أنفسهم الإسلاميين، تبدأ بالالتفات للقرآن العظيم وتعاليمه أولاً، ثم باستخدام العقل والحس السليم ثانياً، فلا يتركون العدو الحقيقي ومحاولة اصطناع أعداء. وقبل ذلك وبعده، ألا يصبحوا أعداء أنفسهم وأعداء الإسلام وقيمه، فيفجرون أنفسهم فعلياً ومعنيين، من دون أن ينكأوا عدواً، بل يقدمون للأعداء الأسلحة كافة، فاستخدام العقل هو أول الفرائض في دين الإسلام.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي