في اغتيالنا الرئيس مرسي قبل قتله

في اغتيالنا الرئيس مرسي قبل قتله

21 يونيو 2019
+ الخط -
إحدى زوايا النظر الغائبة في النقاش حول قتل الرئيس محمد مرسي في سجون الطغيان في مصر أن النظرة والمعاملة اللتين لقيهما من كثيرين من نخب وقطاعات شعبية، بما في ذلك إسلامية إخوانية، لم تقلا لؤما عمَّا لقيه في السجن على أيدي جلاديه وقاتليه. أم هل يا ترى نسينا كم مرة كنا نغتال الرجل وعائلته في اليوم الواحد، ونحن نتحدث عن سذاجته وضعفه، بل وتحميله فواجع الانقلاب في مصر؟ أتفهم أي نقاش موضوعي في أخطاء الرجل السياسية، تكتيكيا واستراتيجيا، وأتفهم كذلك أي حديثٍ عن ضعف حنكته سياسيا. ولكن ما ليس مفهوما أن نغفل حجم التحدّيات التي واجهها مرسي، رحمه الله، منذ اليوم الأول لانتخابه رئيسا، فضلا عن أن تهمة ضعف الحنكة السياسية كانت صفة مشتركة حتى مع من يزعمونها، ممن أيدوا الانقلاب في مصر، بل وكانوا رافعته، كمحمد البرادعي وحسن نافعة وحمدين صبّاحي وخالد يوسف.. والقائمة تطول، شاملة سياسيين وعسكريين ومفكرين وكتابا وفنانين. وإذا كان مرسي أبان فعلا عن ضعف حنكة سياسية، فإن كثيرين ممن سبقت الإشارة إليهم أبانوا عن سذاجة، بل وحتى خيانة، لمصر وشعبها عندما مهّدوا للانقلاب، وتواطأوا معه، وزيّنوه وتغنوا به.
يعاني كثيرون بيننا من معضلة إنكار في سياق أزماتنا النفسية والفكرية نحن العرب. إننا في لاوعينا نمجد الطاغية الدكتاتور، ونجلّه ونحترمه، خوفا في الغالب، وحبا في أحيان أخرى. تجد فينا من يستهزئ بسياسي منصف متواضع نزيه، يترفع عن العبث بالمال العام، ويتمسّك ببساطة العيش، فنصفه بالسذاجة والهبل، في حين نهيم في مديح سافك الدماء واللص والوضيع بين السياسيين، فنصفه بالزعيم القوي الماكر الملهم! أم هل، يا ترى، نسينا كم فينا من استهزأ ببساطة مرسي رئيسا، عندما أصر أن لا ينتقل بأهله للسكن في القصور الرئاسية، إدراكا منه أنها من أموال الشعب المسحوق المنهوبة؟ وهل نسينا كيف شُهِّرَ بالرجل، عندما تقدم ابنه
لوظيفة متواضعة، كأي مواطن مصري عادي، فشنّ سحرة الزيف حملة هوجاء لا تبقي ولا تذر، وكانت الكارثة أن بعضا منا، وفي شعوبنا، تفاعل معها، في حين لم نسمع لهم حسيسا في توريث ابن عبد الفتاح السيسي مصر وتمكينه من رقبتها! ينطبق الأمر نفسه على الرئيس التونسي السابق، المناضل، المنصف المرزوقي، والذي وجد من يستهزئ ببساطته وتواضعه. على عكس مرسي، المرزوقي ليس إسلاميا، ولكنه مثله شريف ووطني منتم للذات عروبياً، نظيف اليد، فكانت هذه "نقاط ضعفه"، حتى في أعين بعض الإسلاميين، فكان أن تخلّوا عنه طمعا في رضى عصابات "الدولة العميقة"! إذاً، فإن كثيرين من نخبنا، علمانييها وإسلامييها، في الهمِّ شرق.
الطغيان الذي يتوارثنا متاعا، نحن العرب، ليس ظلما أوقعه بنا الباري، جلَّ وعلا، بل هو من صنع أيدي كثيرين فينا وسوء أخلاقهم. إن فينا، شعوبا ونخبا، من يمهّد الطريق للطغيان، بل إنهم أُشْرِبوا الذلَّ في قلوبهم من شدة ذرائعيتهم في تبرير ظلم الحكام وجوْرهم وسطوتهم، بل وتحسين ذلك وتزيينه. إن منا وفينا من لا يحترم إلا من يدوسه بحذاء غليظ، نتغنّى بمنعته وقوته وعزّته وجبروته وصولجانه وهيلمانه. أبعد من ذلك، تجد فينا معجبا بـ"ذكاء" طاغية، على الرغم من أنه حقيقة جاهل غبي، ولكنه خبيثٌ رخيص. ليس السيسي ذكيا في معايير العقلاء، بل هو وضيع ماكر. يكفي أن تسمع تصريحات الرجل التي فيها من الكوميديا السوداء ما فيها. كما يكفي أن ترى أين مصر اليوم ومكانتها وقيمتها في الإقليم وفي العالم. ويكفي أن تقارن مرسي بحكامٍ عرب لا يفكون الخط، ولا يفهمون من السياسة شيئا، اللهم إلا إذا كانت العمالة للأجنبي، ووضع العروش تحت أحذية حمايتهم، مقابل نهب ثروات بلادنا وإجهاضها، يظنها بعضهم حكمة ودراية يتفاخر بهما! من يمارس الحكم بمنطق "البلي ستيشين" لا تنطبق عليه معايير الزعامة، بل إن ما يثبت عرشه وحكمه وسطوته هو رهن بلاده ومستقبلها، ورهن مصيرنا نحن العرب، لذئابٍ لا تريد بنا إلا شرا. هذه ليس حنكة ولا كفاءة، بل هذه هي النذالة والغباء في قمة تجليهما.
لم يقبل مرسي أن يكون من تلك الفصيلة من الحكام، وبالتالي، نعم، لم يَتَمَكَّن من الحكم، ولم يكن لِيُمَكَّنَ منه، وهو من رام حكما بشرعيةٍ شعبيةٍ من أجل رفعة شعبه واستقلال بلاده. وإذا كان مرسي فشل في مشروعه، فإن الأوْلى أن نتحدّث أولا عمن ساهم في إفشاله بين النخب والشعوب ممن تواطأوا مع جلاديهم في ذلك. أما محاولات بعضهم اليوم غسل أيديهم من عار السذاجة والحماقة المتمثلة في تمكين العصابة التي نهبت مصر وأذلتها فلن تنجح. إن التاريخ مسجل ومصوّر، بالكلمات المكتوبة والمسموعة والمرئية، وحتى إن كانت ذاكرة شعوبنا قصيرة، فإن الوثائق والحقائق ستبقى تحييها كلما استدعت الحاجة ذلك.
مسألة أخرى في هذا السياق. كثيرون من النخب التي وقفت ضد مرسي لم يقفوا ضده بسبب
"ضعفه" أو "ديكتاتوريته"، بقدر ما أنهم وقفوا ضده بسبب هويته وخلفيته الأيديولوجية. يتعامل هؤلاء مع الشعوب من منطق الوصاية عليها، حتى وإن لم يكن لهم جذور راسخة فيها. المشكلة أن تلك النخب لا تملك وسيلة إقناعٍ لتكسب شعبيةً لا تقدر عليها، ولا هي تملك أدوات القهر لإخضاع الشعوب لها. ولكن العسكر يملكون أدوات القهر، وهكذا اختارت تلك الفئات من النخب حذاء العسكر على لحى الإخوان المسلمين. بئس الخيار وبئس الاختيار، فالإخوان كان يمكن هزيمتهم في صندوق انتخابي، أما العسكر فإنك تحتاج حربا أهلية لا تبقي ولا تذر حتى تهز كراسيهم. الأدهى حديث بعض النخب التائهة عن انهيار مشروع تيار "الإسلام السياسي"، ولكنهم يتغاضون عن حقيقة أنهم لا يملكون بدائل مقبولة ومعقولة لمشروع تيار "الإسلام السياسي"، وهم لو امتلكوا مشاريع قادرة على المنافسة لما استجدوا تدخل العسكر لسحق الإسلاميين. إذا كان مشروع تيار "الإسلام السياسي" قد وصل إلى نهايته، كما يزعم بعضهم، فإن مشاريع القوميين والليبراليين واليساريين.. ألخ، سابقة في الانهيار، فما الحل إذاً، أنسلم بأننا، نحن العرب، إنما خلقنا موضوعا وعبيدا للطغاة؟
رحم الله الرئيس المظلوم الدكتور محمد مرسي، الذي لو لم يكن إسلاميا لكان تمَّ ترميزه، ولكنهما السفاهة والنذالة أبتا أن تغادرا كثيرين فينا. أيضا، عظّم الله أجرنا في أنفسنا، فقد أثبتنا مرة أخرى أننا، نحن الشعوب، لم نبلغ بعد نضجا كافيا يؤهلنا أن نعيش أحرارا كراما أعزاء. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن فينا نخبا لا تزال تدرك أن أولويتنا، نحن العرب، هي الحرية أولا، ثمَّ يأتي تنافس المشاريع الأيديولوجية المشروع، وليس العكس.