قلوبنا المخذولة الجريحة

قلوبنا المخذولة الجريحة

03 يونيو 2019

(فاتح المدرس)

+ الخط -
من قال مرة إن الناس معادن كان محقاً ودقيقاً وحكيماً إلى حد بعيد. نعم، نحن معادن مختلفة ومتفاوته صفاتها بشكل كبير بين شخص وآخر، منها النفيس الجميل الذي لا يقدّر بثمن، ومنها الرثّ القبيح عديم الجدوى، نستطيع بقليلٍ من الملاحظة والتأمل التمييز بينها بكل سهولة، ويبقى معيار الأصالة، كما هو معروف، مرتبط بثبات المعدن على صفاته، على الرغم من تقلبات الزمن. لهذا يحتل الذهب والماس المنصب الأرفع والأكثر أهمية، ليس ذلك فحسب، بل إنه يزداد قيمةً، كلما مر الوقت عليه وتعتق، شأن النماذج الإنسانية النبيلة شديدة الندرة في زمننا الموحش هذا، نماذج نبيلة مشرقة لا يزيدها مرور السنين إلا أصالة ووفاء ونقاء، تجعلنا نشعر بالأمان والثقة واليقين، لمجرد وجودها في الحياة سندا ونقطة اتكاءٍ يعوّل عليها، لأنها لن تخذلنا مهما جرى من تبدلات وتحولات. وبالمجمل ولشديد الأسف، يستطيع بعض الناس من صغار النفوس المتهافتين غير الحقيقيين المنافقين، ومن باب المداهنة والرياء، ولغاياتٍ نفعيةٍ بحتة، الادّعاء بما ليس بهم من صفاتٍ، فيزعم الحسود الجشع الطمّاع زهداً وترفّعاً واستغناء، سعياً إلى انتزاع احترامٍ يعرف، في قرارة نفسه، أنه لا يستحقه. ومع ذلك، يصرّ عليه بكل قوة تواطؤاً غبياً ضد الذات، كما يمكن للحسود الأناني المريض الفاشل، المسكون بالشرّ والعدوانية أن يدّعي محبة وتعاطفاً وبهجةً بأفراح الغير، فيما قلبه يقطر بسم الكراهية، لأن نجاح الآخرين، في الواقع، يهزّ كيانه ويدمره، ويسبب له أذىً نفسياً كبيراً، يحاول مداراته بالتظاهر بالفرح من أجلهم، فتجده أول من يقوم بواجب التهنئة والمشاركة، مضمراً كثيراً من الغلّ، غير أن هؤلاء الأدعياء يفقدون مهارات التمثيل التي تتراجع كثيراً، وتفقد تأثيرها، وسرعان ما ينكشفون عند وقوع الملمّات والأحداث الجسيمة. وسوف يتجلى ذلك أمام أيّ منا بوضوح، عند المواقف المفصلية في الحياة، سواء ألمّت بنا أو بأيٍّ من أحبتنا مصيبة ما، في لحظةٍ شفافة مفعمة بالأحاسيس المرهفة، سيكون يسيراً علينا التمييز بين من يحسّ بوجعنا بإخلاص، ومن يسمعنا قاموساً أجوف من كلمات التعاطف الجوفاء، ويجاملنا من باب رفع العتب، ندرك ذلك البرود والادّعاء، وأحيانا الشماتة، بمجرد المصافحة أو نظرة العين التي لا تكذب، تفضحهم لغة الجسد، فيبدو كلامهم المنمّق الأنيق بلا معنى حقيقي.
يرتبك هؤلاء إذا حقّقت منجزاً كبيراً على صعيد الدراسة والعمل، يعجزون، في لحظة الصدمة الأولى عن الادعاء والتظاهر بالبهجة، عندها يظهرون على حقيقتهم، ويكشفون عن خسّة معدنهم الصدئ. والمحزن أن منهم من يطرح نفسه صديقاً مقرّباً، شاءت الأقدار أن تجرّده من قدرته على النفاق والكذب، وتتعرّى روحُه الملطخة بالسواد والحقد والرغبة في إلحاق الأذى، صفات قاتمة كريهة كامنة في أرواح كثيرين ممن حولنا نجحوا، إلى حين، في خداعنا بانتحال مزايا إنسانية مزعومة، لا تمثّل جوهرهم، ولو أنهم تعبوا على أنفسهم وبذلوا جهودا جادّة، لتخلصوا من التشوّهات، واكتسبوا صفات إيجابية مغايرة، بديلاً عن تلك الطاقة السلبية التي تكبّل نفوسهم. وفي جميع الأحوال، علينا أن نكون ممتنين للحياة، ومواقفها المفصلية التي تلقننا الدروس القاسية. وتصدمنا أحياناً في قدرة الآخرين على اقتراف القبح، وعلى قدرتنا في التغاضي، ومنح الفرص المتتالية قبل طي الصفحة إلى الأبد، بحيث يتحوّل هؤلاء إلى محض غرباء اقتحموا حياتنا، وانتهكوا براءة أرواحنا من دون وجه حق. وعلى الرغم من ذلك كله، نتشبث، بكل ما أوتينا من قدرة على التصديق، بقيم الخير والمحبة والجمال، وبأولئك الطيبين الشرفاء الذين يعزّي وجودهم قلوبنا المخذولة الجريحة.

دلالات

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.