احتكار السلطة لتحطيم المجتمع السوري

احتكار السلطة لتحطيم المجتمع السوري

20 يونيو 2019
+ الخط -
يملك الاستبداد المديد قدرة هائلة على التأثير في المجتمع، وإعادة تشكيله، وصناعة هوياتٍ بملامح جديدة لم تكن موجودة سابقاً. وهذه الهويات تخدم هذه السلطة بالضرورة، فالهويات التي تسعى السلطات المستبدة إليها، يجري بناؤها في سياق تبرير استمرار السلطة وخدمة مصالح إستراتيجية للقائمين عليها، بوصفها سلطة مشخصنة، كما كانت الحال في التجربة السورية، في زمن حكم عائلة الأسد.
لو لم يتسنَ لحافظ الأسد حكم سورية ثلاثة عقود، لما كان هناك توريث للحكم في سورية. جعلت فترة الحكم المديدة هذا الرجل يُعيد تشكيل ليس الخريطة السياسية لسورية، بل ويعيد تشكيل المجتمع السوري، ويُمسك بكل آليات التحكم السلطوي في البلد. ترافق، خلال هذه العقود الثلاثة الأخيرة، تفريغ البلد من القوى السياسية مع صناعة انزياحات اجتماعية تخدم السلطة، بفعل سياسات السلطة المعلنة والباطنية التي حكمت البلد فعلاً، خلف الواجهة الشكلية لمؤسسات الدولة، وفي مقدمتها الوزارات التي تم تفريغها من كل قوة سياسية ممكنة، وتحويلها إلى أعمالٍ إدارية في خدمة الرجل الأول، لا أعمال سيادية تنفذ سياسات قوى اجتماعية ببرنامج سياسي.
تأخذ المعارف والمفاهيم السياسية معناها من المجتمع والتجربة التي تستخدم فيها. ولذلك من الطبيعي أن يتم ربط هذه المفاهيم في سياق تجربة البلد المعني. ولذلك تحتاج المقولات السياسية والثقافية والممارسات السياسية ذاتها إلى ربطها بلغة المجتمع وثقافته وتجربته. وهي تحتاج أيضاً لمعرفة كيف يفهم الناس في هذا المجتمع المقولات السياسية، فمقولات مثل "الثورة"، "المساواة"، "الديمقراطية".. إلخ، ليست لها الدلالات نفسها في كل المجتمعات، فإدماجها في 
المجتمع يعطيها معاني مختلفة عن مجتمعات أخرى. من هنا يمكن القول إن الأسد الأب كرّس تجربة خاصة في آليات التحكم والاستجابة السياسية، وكرّس مفاهيم سياسية على مستوى القول، من جانب. ومن جانب آخر، كرّس آليات تحكم معلنة، الكل يشاهدها، الكل يخضع لها، لكنها "مسكوت عنها"، فعلى "المواطن" أن يكرّر الخطاب الذي تمليه السلطة على مستوى الشكل، وأن يتعامل مع معطيات السيطرة القائمة في الواقع، والمتناقضة مع الخطاب الشكلي للسلطة ذاتها. وكان التناقض الأبرز بين الشعارات العلمانية للدولة والكلام العمومي عن المواطنين والحقوق، وواقع التحكّم في البلد عبر الأداة المخابراتية وتوظيفاتها للطائفية التي جعلها الأسد الأب القوة الضاربة لسلطته. وهذا ما أخذ مساراً طويلاً منذ تسلمه السلطة، وصولا إلى تكبيل البلد بالتوريث.
كانت ثمانينيات القرن المنصرم ذروة تحطيم السلطة المجتمع، شهدت تلك الفترة، ليس تحطيم الحياة السياسية في سورية فحسب، بل وتم تحطيم المجتمع السوري أيضاً، بتحويل المواطنين السوريين إلى مطلق متهمين، عليهم إثبات براءتهم في كل وقت. وفي تلك الفترة من تغوّل السلطة، سادت في البلد لهجة الطائفة التي ينتمي لها الرئيس، بوصفها تعبيراً عن القوة، وفاتحة لكل الطرق المغلقة عند السلطات، حتى أصبح كل من يريد أن يوحي بالقوة يتصنع لهجة الرئيس.
خلال سنوات حكمه الطويلة، عمل الأسد الأب على نشر أفراد طائفته بوصفهم الأداة الحاسمة لسلطته في المفاصل الرئيسية لمؤسسات الدولة، كما كان الأمر في الجيش وأجهزة المخابرات، حيث شكّل الضباط العلويون العمود الفقري لقادة الوحدات. وهذا ما جعل للطائفة فعلياً اليد العليا في البلد، ليس بالامتيازات فحسب، بل بمنح أعضائها المراكز الحساسة بوصفهم مؤتمنين، ولا يشكلون خطراً على سلطة الرئيس الذي يطرح نفسه على مستوى الخطاب العام، بوصفه "أبو السوريين"، ولكنه في أدوات التحكم يعتمد، بشكل أساس، على طائفته، سواء في أدوات القوة التي كانت أجهزة المخابرات أداتها الرئيسية، أو على مستوى التحكّم الاقتصادي، التي كانت أدواتها رجال الطائفة في زمن الأب، أمثال محمد مخلوف، ورامي مخلوف الابن في زمن الأسد الابن.
حتى تكتمل حلقة القبض على المجتمع، كان لا بد من شيطنه المجتمع السوري من أجل 
إخضاعه وتركيعه، وقد استثمر الأسد الأب الصراع مع "الإخوان المسلمين" في مطلع الثمانينيات، لا لاستئصالهم فحسب، بل لتركيع المجتمع السوري وتحطيمه أيضا. وكانت حرب النظام على المجتمع السوري، بذريعة الصراع مع "الإخوان المسلمين"، والذين لم يتم شيطنتهم وحدهم، بل وشيطنه المجتمع، بوصف "الطائفة السنية" الكتلة الأساسية المُشكلة له. ويمكن القول إن الأسد الأب استطاع، في تلك الفترة، مصادرة الطائفة العلوية، بتخويفها من الطائفة السنية، باعتبارها مستهدفةً منها بشكل استئصالي، كما جرى تصويرها، في ذلك الوقت، في مذبحة مدرسة المدفعية التي قتل فيها الطلاب الضباط من الطائفة العلوية، أو اغتيال شخصياتٍ علوية، منهم عميد كلية الحقوق، محمد الفاضل، وبقيت سياسة تخويف الطائفة العلوية قائمةً خلال العقود المنصرمة، وهذا ما جعلها، إلى حد كبير، موحدة خلف النظام في مواجهة الثورة. شيطنت السلطة الأسدية الطائفة السنية، بوصفها البيئة الحاضنة للإرهاب. ولذلك يجب إخضاعهم وإذلالهم، وعلناً، وهذا ما كان عندما نزعت حجابَ النساء في مدينة دمشق، بشكل سافر وعنيف، ما عُرفت، في ذلك الوقت، بالمظليات، التابعات فعلياً لأسوأ وحدات الجيش حينها (سرايا الدفاع)، التي كان يقودها رفعت الأسد شقيق الأسد الأب.
بوضع الطائفة السنيّة في موقع المتهم، وتصويرهم باعتبارهم "مشكلة" من دون حل. وتقدم الأدلة أيضاً على أن الحلول العقلانية لا تجدي نفعا معهم. لم يعد يُنظر إلى السنّة بوصفها 
كيانات مأمونة من السلطة، وحرموا من أن يكون لهم موقعهم المعنوي المستقل في البلد، وأصبح هؤلاء بالنسبة للطائفة العلوية بمثابة "حثالة" أو حتى "جراثيم"، كما جاء على لسان الأسد الابن، بوصف القائمين في الاحتجاجات ضده. وباستخدام مجازاتٍ متباينة تتصل بالفضلات (قذارة، حثالة، الجراثيم، وما شابه) للإشارة إلى أن المقصودين بالحديث لا ينتمون إلى البشر. وتصنيف السنّة باعتبارهم إرهابيين ومجرمين، يعني تجاهل خصالهم البشرية المنظورة، والإشارة إلى خلاصة ذات دلالات استئصالية. ومع الخطاب التحاملي المتطرّف الذي اعتمدته السلطة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، تمت إدارته بعناية: على أساس فرضيات الاستئصال متضمنة فيه، وأحيانا معلنة، ولكن الخلاصة كان التحامل المبالغ فيه ونزع الصفات الإنسانية عن الطائفة السنيّة، مدخلاً لإخضاعها أو اجتثاثها، كما عبّر عنه الشعار الذي كتبته السلطة على الجدران في كل البلد منذ مطلع الاحتجاجات، "الأسد أو نحرق البلد"، بحجة اجتثاث البيئة الحاضنة للإرهاب، ما فتح الباب واسعاً لاستخدام البراميل المتفجرة بشكل عشوائي، ضد تجمعاتٍ بشرية، كانت جميعها سنيّة، حاضنة للإرهاب، حسب التوصيف الرسمي للسلطة.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.