هل تُعيد الصفقة الفلسطيني إلى منطلقاته الأولى؟

هل تُعيد الصفقة الفلسطيني إلى منطلقاته الأولى؟

19 يونيو 2019
+ الخط -
لا يعيشُ الفلسطينيون هذه الأيام أفضل أحوالهم، بل يعيشون الأصعب والأخطر، حيث الانقسام والضعف، يرمي بأطنابه في كل جنبات الحركة الوطنية الفلسطينية، فلا منظمة التحرير هي الّتي كان قائدٌ فيها يُدلي بتصريحٍ تحذيري من بيروت، أو تهديد لفظي يُثير جزع بعض أنظمة العرب، ويجعلها تفكر مرتين، خصوصا عندما يتعلّقُ الأمر بما عليها من التزامات قومية تجاه فلسطين، أو أن يُعيدها إلى صوابها، إن هي فكرت أن تُغيّر موقفها السياسي من هذه القضية أو تلك، فيما يتعلق بالحق الفلسطيني، خصوصا ما يتعلقُ بأولوية المنظمة في تمثيل شعبها، ولا هي تلك المنظمة، التي كانت مجموعة كوماندوز تنتمي لأحد فصائلها، تقومُ باختطاف طائرة أو باخرة أو احتجاز رهائن، تجعلُ العالم يحبسُ أنفاسه، في ترقُبِ الحدث ومآلاته.
في ثمانينيات القرن الماضي، وبعد الخروج من بيروت، ألقى محمود درويش عبارته الشهيرة في ملحمته "مديح الظل العالي"، مُخاطبًا أبو عمار ربّان السفينة الفلسطينية، مُستخفًا بفكرة الدولة، وممجدًا فكرة الثورة، كونها الفضاء الواسع كونًا: "ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة.. ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة". عرف درويش، بحدسهِ، أنّ حلم الدولة سيطيح حلم التحرير، وستُصبح الدولة ملهاة الفلسطيني، وهو ما حدث، حيث أنّ سعي القيادةِ الفلسطينيةِ إلى الدولةِ كان قد أصبحَ، منذ خطاب عرفات عام 1974 في الأمم المتحدة، وتبنّي مشروع النقاط العشر، الداعي لإقامة سلطة وطنية على أي شبرٍ يتحرّر من فلسطين، هدفًا ساميًا، فالفلسطينيون بعد اتفاقية إعلان المبادئ في أوسلو عام 1993، أصبحوا أكثر تمسكّا بحلم الدولة، وابتعادًا 
ولو مؤقتًا عن حلم التحرير، الذي انطلقت من أجله عام 1965 بالأساس. جاء كلّ ذلك نتيجة خيبات الأمل، الّتي عاشوها في الشتات والمعارك الجانبية، المفروضة عليهم في الأردن ولبنان.
أصبحَ هناك وعيٌ بأن الدولة ستضمن لهم مكانًا تحت الشمس، كباقي الشعوب، حلم الدولة قادَ إلى نبذِ العُنف، فمكانتهم الدولية والعربية أصبحت راسخة، لا أحدٌ اليومَ ينافس منظمةَ التحريرِ على تمثيل شعبها، تلكَ مسألةٌ أصبحت من الماضي، المنافس الوحيد اليوم داخلي، يتمثل في حركة حماس المسيطرة على قطاع غزة، والتي تتناقض في طرحها الظاهري مع منظمة التحرير، وما زالت تعتقدُ أنّ السلاح هو طريق التحرير.
تغيرت ثقافةُ الفلسطيني النضالية. هذا لا شكّ فيه، لكن العالمَ أيضًا تغيّر، لم يعدْ هناك اتحاد سوفييتي ومعسكر اشتراكي، يرعى حركات التحرر الوطني العالمية، لم يعُد هناك صراع أيديولوجي، له امتدادات عابرة للقارات والحدود، حتّى المعسكر القومي العربي الداعم التقليدي للثورة الفلسطينية، أو ما أُطلق عليه جبهة الصمود والتصدّي انتهت، فقد دمّر هذا المعسكر (العراق، سورية، ليبيا، الجزائر، اليمن الجنوبي)، ولذلك كان التحوّل ضرورة، وكانت المنظمةُ قد بدأت التفكير في التحوّل بعد الانهيار الأول (الاشتراكي)، أي قبل الانهيار الثاني (القومي العربي).
كان التحوّل إلى حلم الدولة يعني الالتزام بالمعايير والشروط الأميركية والإسرائيلية للتسوية، وفي مقدمتها نبذ العنف، وقد نبذهُ أبو عمار في بيانٍ رسمي، حتى قبل العودة إلى فلسطين، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود على أرض فلسطين. كلُ ذلك شكَّل نقطة تحول، سميت بالواقعية السياسية، استبدلت الصقور بالحمائم، لكنَّ القيادة الفلسطينية ما بعد عرفات، ذهبتْ بعيدًا في الحمائمية، أبعد مما تصوَّر أصدقاؤها وأعداؤها.
ومن تجلياتِ تلكَ المبالغةِ في الحمائمية، بعد التخلّي عن الكفاح المسلح، من الحركة الأكبر (فتح)، ذهبتْ القيادة الفلسطينية إلى منع أي مظهر مقاوم، بما في ذلك استخدام السلاح الأبيض في مدن الضفة، كإلقاء الحجارة أو استخدام السكاكين، وهذا قد يبدو غريبًا، فالسلاحُ الأبيض، وحتّى الناري منه، غير ممنوع بموجب القانون الدولي، وهذا أثار رفض الفلسطيني العادي، وفي ظلِّ عدم الفهم والتعارض، ما بين القيادة والقاعدة الشعبية، ازدادت الفجوة بين عقليتين، عقلية الحكماء من كبار السن المخضرمين (القيادات الفلسطينية العائدة)، والقاعدة الشبابية، الّتي تثورُ غضبًا على المحتلِ وسياساته القمعية.
يبدو، ومع تراكم الخيبات، أصبحتْ هناك قناعة لدى قيادة السلطة والمنظمة، "أن قوة 
الفلسطينيين في ضعفهم"، وإبراز الضعف سيؤدي، مع الوقت، إلى كسبِ عطف العالم وتضامنه، ما يؤدي إلى تحقيق الاستقلال. لذلك باتت أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الفلسطينية، تقومُ بالتنسيق مع أجهزة أمن الاحتلال، في منع وملاحقة النشطاء، الّذين ما زالوا يؤمنون بالعنف المسلح طريقا للتحرير، من تنفيذ مخططاتهم، وقد نجحتْ أجهزة أمن السلطة، في حالاتٍ عديدة، وأحبطتْ عمليات عديدة، وبصرفِ النظرِ عن تفسيرات هذه الأفعال الإجرائية ومبرراتها من السلطة، على الرغم من رفضها شعبيًا، إلّا أن هذا التنسيق هو ما تبقى من "أوسلو"، بالإضافة إلى مُلحق باريس الاقتصادي المهم، الّذي يتضمن بشكل خاص تحويل أموال المقاصة للسلطة، وهو الجانب الذي ما زال الأوروبيون يحضّْون عليه، فهو بمثابةِ الخيط الرفيع الذي يمنع انهيار السلطة وعملية التسوية السلمية التي لم يبقَ منها سوى اسمُها، من خلال الرضا الإسرائيلي والأوروبي والأميركي، وطالما الأمر كذلك؛ أي أنّ التنسيق الأمني قائمً، فالتحويلات المالي، ستتدفّق وتجعلُ أجهزة السلطة تعملُ، وهذا مصدر قوة السلطة في مواجهة الفصائل المُعارضة، طبعًا بالإضافة إلى شرعية المُنظمة كممثلٍ شرعي ووحيد، مُعترف به عربيًا ودوليًا.
في غزة، الأمرُ يختلفُ، لكن هناك بعض التشابه، ولو اختلفت الظروف. حركة حماس، وعلى الرغم من امتلاكها السلاح الخفيف والثقيل، وإبرازها الجهاد المسلح طريقا حتميا وحيدا، وهذا شعار "فتح" القديم الّذي تخلّت عنه بعد "أوسلو"، إلّا أن أجهزة أمنها وشرطتها تتحكمُ في كل حراك أو حركة عبر الحدود وداخلها، وفي النهاية، أصبحتْ هي الأخرى تُقايض التهدئة أو الهدنة مع الاحتلال، بالمال "هدوء مقابل المال". هذه معادلة الاحتلال مع حركات المقاومة؛ معادلة تعني تقديم حلم الدولة، على حلم التحرير والعودة، أنّ المال ضروري كي تعمل أجهزة الدولة/ السلطة، تعني أن هذه السلطة مسؤولة عن الشعب؛ غذائه ودوائه، وكل مناحي حياته، وبذلك حرّرتْ السُلطتان الاحتلال من مسؤولياته، بموجب اتفاقيات جنيف.
تأقلمَ الفلسطينيون مع مطالب العالم الظالم تجاههم وحقوقهم، وقبلوا بالحدِّ الأدنى من حقوقهم، 
ومنحوا المفاوضات وقتًا طويلًا، واعتبروها سيرًا مع حركة فتح، خيارًا وحيدًا يحقنُ الدماء، وقد يؤدي لقيام دولتهم على بعضٍ من ترابِ وطنهم. لكن بعد ستة وعشرين عامًا، لم يحصل الفلسطينيون على دولتهم المنشودة، لم يؤدِ اعترافهم بعدوِّهم، وتخلّيهم عن الكفاح المسلح إلى شيء، استُخدمت حركات المقاومة بعكس أهدافها التي انطلقت من أجلها، وفي مفارقة تحدثُ أول مرة في تاريخ حركات التحرّر، قامتْ حركة التحرر الوطني الفلسطيني بحماية أمن عدوها، وحررتهُ من أعباء احتلاله المالية والاقتصادية والأمنية، أملًا في أن يكون ذلك إثباتًا لحسن نيتها، في السلام وحسن الجوار والتعايش السلمي، لكن ذلك لم يُقدّرْ من قبل جبهة الأعداء، فمن وجهة نظر المحتل وحُماته الأميركان، كانت تلك الاتفاقيات مُجرّد حلقة من حلقات إلغاء الوجود الفلسطيني، والتنكّر لكل الحقوق العربية.
الحركة الوطنية الفلسطينية أمام مفترقِ طرقٍ، إمّا عيش الوهم، في البقاء داخل مربع التسوية، الّتي تعني اليوم مع صفقة القرن والتخاذل (بل التآمر) العربي مع الصهاينة، الحفاظ على الوضع الراهن وتأبيده، أو الذهاب تجاه خيار الدولة الواحدة، وتغيير هدف النضال وأساليبه، عملًا بالنموذج الجنوب أفريقي. خيارات لا تُفضّلها القيادة الفلسطينية، لكن هل يوجد بدائل أخرى؟
لا أعتقدُ، لا خيارات أخرى أمام صانع القرار الفلسطيني، إلّا العودة إلى أصل الصراعِ، بأنه صراع وجود، وصراع الوجود يحتاجُ إلى أساليب وتكتيكات واستراتيجيات، تختلف تمامًا عمّا كان، لكن تغيير الخيارات، بحاجة لتغيير في النهج والقائمين عليه، وفي ظل الوضع الراهن، ذلك ما زال بعيدًا، مع أنّ إرهاصاته قد بدأتْ.
77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
77666EA5-3069-490C-A5BB-DA22F57426B4
علاء أبو عامر

أكاديمي وباحث ودبلوماسي وروائي فلسطيني، دكتوراه في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية

علاء أبو عامر