تركيا وصفقة صورايخ في عالم متعدّد الأقطاب

تركيا وصفقة صورايخ في عالم متعدّد الأقطاب

19 يونيو 2019
+ الخط -
يؤكّد الموقف الرسمي التركي إن اللجوء الى شراء صواريخ إس 400 الروسية يعود إلى الموقف السلبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في بيع او توفير صواريخ الباتريوت لحماية تركيا، على الرغم من أنها عضو بارز فيه. ولا تعكس التصريحات الرسمية التركية حقائق الموقف التركي من جوانبه كافة. صحيح أن أنقرة تلجا إلى شراء هذه الصواريخ بديلا عن صواريخ الباتريوت، أو لتفادي أي اختلالٍ في موازين القوى، فيما يتعلق بحاجات التسلح التركية. الاستنتاج الأول الذي تعتمده المقاربة التركية يقول إن منظومة الدفاع إس 400 تلبي حاجات تركيا العسكرية، وهذه النقطة تؤشّر، في الوقت نفسه، إلى افتراق جيوسياسي يحدث أول مرة بين تركيا والولايات المتحدة، فتركيا ترسل إشاراتٍ إلى حلف الناتو بانها سوف تواصل تعزيزعلاقاتها وتعاونها مع روسيا، في وقتٍ تتعمّق فيه المشكلات مع دول الحلف، في مجالات عدة، وليس في مجال التسلح فقط.
في مقابل ذلك، تأتي تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، حول ضرورة أخذ حساسيات حلف شمال الأطلسي بالاعتبار بخصوص إس - 400 من جهة، والأخبار المتسربة بشأن احتمال تخلي تركيا عن شراء هذه الصواريخ لتدل على محاولات الدبلوماسية التركية الحثيثة للخروج من هذا المأزق الديبلوماسي إزاء مواقف الولايات المتحدة المتشدّدة تجاه تركيا في أكثر من قضية.
ولا يتعلق الحديث عن صفقة شراء إس - 400 بنصب صواريخ فقط، بل يتعلق بمنظومة دفاعات جوية متكاملة، لأن هذه الصواريخ تتألف من أقسام متعدّدة، بما في ذلك قواعد الانطلاق ونظام الرادار ومركز القيادة حيث يتم إطلاق الصواريخ، ضمن مراحل بدءا من اكتشاف الهدف وتشخيصه، وصولا إلى عملية إطلاق النار وتدمير الهدف.
ومن ناحية أخرى، تواجه مسألة تواؤم نظام الدفاع الجوي المراد شراؤه مشكلة التكامل مع 
أنظمة التسلح التركية المتوافقة بنيويا مع منظومة تسلح حلف الناتو. وهذه من النقاط الأكثر أهمية في هذه المسألة، فلا يمكن أن تتجاهل الولايات المتحدة الأميركية استخدام هذه المنظومة بشكل مستقل عن نظام "الناتو" بالكامل. كما أن هناك مشكلات أخرى مدرجة على جدول الأعمال بين تركيا والولايات المتحدة، إحداها تخوّف قيادة الحلف من انتقال المعلومات التقنية الخاصة بأنظمة تسلح الحلف إلى روسيا في حالة ربط منظومة إس - 400 ببقية منظومة التسلح التركي الأطلسية.
ويعكس القرار الذي اتخذه مجلس النواب الأميركي، وتصريحات كثيرين من أعضائه البارزين، القلق المتصاعد بشأن هذه القضية في الولايات المتحدة. فقد صرح رئيس لجنة الشوون الخارجية من الحزب الديمقراطي في مجلس النواب، إليوت أنجيل قائلاً إنه على الرغم من العلاقات التاريخية بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، إلا أن أعضاء كثيرين في مجلس النواب يشعرون بالقلق، بسبب ميل الرئيس التركي، أردوغان، إلى مزيد من التعاون مع روسيا، في وقتٍ تعتبر فيه تركيا من أبرز أعضاء حلف شمال الأطلسي. كما أشار أنجيل، في سياق آخر، إلى ما اعتبره هجوما من الحكومة التركية على الديمقراطية والصحافة الحرة والمجتمع المدني، وأن هذه القضايا، إلى جانب قضية "إس – 400"، تثير قلق المؤسسات التشريعية في الولايات المتحدة. وأنه في حال إصرار الحكومة التركية على المضي في شراء هذه المنظومة، فإن هذا سيعرّضها إلى عواقب وخيمة.
يعطي رفض الكونغرس الأميركي وتحذيراته المدى الواسع لإدارة الرئيس ترامب لاتخاذ مواقف متطرفة تجاه تركيا. ويدفع هذا الرفض، تركيا، في الوقت نفسه، إلى الاقتراب أكثر من روسيا وإيران، بما يتجاوز اعتبار هذه الصفقة قضية تسلح فقط، الأمر الذي سينعكس حتما على قضايا أخرى تتعلق بالأزمة السورية واتفاقات أستانا وسوتشي، وهي اتفاقيات باتت تشكل إجماعا مقبولا بالنسبة المجتمع الدولي والولايات المتحدة نفسها بوصفها المسارت الوحيدة المتوفرة للخروج من الأزمة السورية.
وتقبلت واشنطن، وعلى مضض، تنامي العلاقات الروسية، في شقها الدبلوماسي، وخصوصا في ما يتعلق بالقضية السورية، إلا أن مراقبين أميركيين يعتبرون تطور العلاقات التركية الروسية باتجاه التعاون العسكري الاستراتيجي كارثةً وثغرةً كبرى في موازين القوى الدولية وشبه الحرب الباردة التي تتصاعد بين روسيا والولايات المتحدة. والاعتراضات الأميركية، والتي تحاول الدبلوماسية التركية أخذها بالاعتبار، لا تُنسي المسؤولين الأتراك ما قامت به الولايات المتحدة عام 2015، حين سحبت منظومة الباتريوت الدفاعية من تركيا، في وقت كانت بلادهم أحوج ما تكون لحماية أمنها القومي.
وقد يعتبر هذا الخلاف بشأن هذه الصفقة، في حال إتمامها في المستقبل، نقطة فارقة في 
علاقات الشرق بالغرب، وفي تموضع تركيا الاستراتيجي الذي ينحو وبقوة باتجاهٍ أكثر استقلالية ومراعاة للمصالح الاستراتيجية التركية، بعيدا عن التبعية التي رزحت تحتها منذ نهايات الحرب العالمية الأولى وما أعقبها من اتفاقاتٍ، يراها الأتراك اتفاقاتٍ مجحفة، يجب الخروج من مفاعيلها.
كما أن هذه القضية تُظهر الاعتماد المتبادل بين تركيا وروسيا، ففي حين تحقق روسيا من خلال هذه القضية اختراقا غير مسبوق لحلف شمال الأطلسي، تقوم تركيا بتحسين شروط تعاملها مع هذا الحلف، خصوصا في الملف الكردي الذي يشكل حساسية عالية لدى صانع القرار في تركيا، والذي يعتبر أن الولايات المتحدة فضّلت مصلحتها في العلاقة مع مليشيات تعبتر إرهابية من وجهة النظر التركية على مصالحها مع حليفها الاستراتيجي التركي.
لقد ذهبت تركيا باتجاه شراء منظومة إس - 400 وهي تعلم أن هذا سوف يوتر العلاقة مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي، إلا أن تشدّد الإدارة والهيئات الأميركية التشريعية قد فاجأ الحكومة التركية، فهي لم تتوقع التهديدات الأميركية، منذ بدء هذه الصفقة، بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك، إذ باتت التهديدات الأميركية باستهداف الاقتصاد التركي لا تتوقف. وتركيا تملك أوراقا كثيرة في هذه المعركة، كما أن هنالك استعدادا لدى تركيا للوصول إلى حل وسط مع الإدارة الأميركية، أو المضي في تحدّي هذه الإدارة وإملاءاتها، واستخدام كل الأوراق في حوزة الحكومة التركية، لإرغام الولايات المتحدة على التراجع عن تهديداتها المستمرة. ومن هذه الأوراق إغلاق قاعدة أنجيرليك في جنوب البلاد، إلا أن هذا المسار، إن تحقق، فإنه لن يترك آثاره على العلاقات التركية الأميركية فقط، بل على مجمل علاقات الشرق والغرب ولعقود مقبلة.