السودان.. ما بعد المجزرة

السودان.. ما بعد المجزرة

19 يونيو 2019
+ الخط -
هل يمكن أن يمثل الوعي بالحقوق خطوة تجاه تحقيق الوعي؟ كيف يمكن أن يتبلور وعي ثوري يساعد السودانيين في تخطى حالة الانحباس الوجداني، والانغلاق الذهني الذي يعايشونه هذه الأيام؟ ما السبيل لتفادي حالة الارتدادات التي يمكن أن تُحدثها الاصطفافات الجهوية والإثنية والقبائلية التي اتسمت بها الساحة السياسية؟ ما هو الأثر الذي يمكن أن يُحدثه انهيار الدولة السودانية، وتهتك أركانها على مستوى الحزام السوداني؟ هل من سبيل لتدارك ذاك البركان الذي ظل يعمل بصمت في نفوس السودانيين، ولا تطيق ألسنتهم التفوه به؟
لو أن إجراءات التفاوض بين "قوى الحرية والتغيير" والمجلس العسكري اتسمت بالشفافية (إطلاع قيادة الشباب المعتصمين على تفاصيل المداولات) والمحاسبية (محاسبة كل جهة من المفاوضين على التقصير) والاعتراف (الاعتراف بالآخر في طرف ميدان الاعتصام والذي لم يتم تمثيله أو دعوته إلى طاولة المفاوضات على الرغم من وجوده الكثيف) لكان من الممكن تصميم استراتيجية تجنب البلاد التضحية بأغلى بنيها، والدفع بهم ثمنا للخروج من المأزق، ومن بعد الوقوع في المنزلق.
فقد كلا طرفي التفاوض زمام المبادرة، ولن يستطيعا أن يردّا الأمر إلى ما كان عليه، حتى ولو رغبا، لأن المعادلة السياسية عادت إلي مقوماتها الهوياتية، متمثلة في الريف الذي كان ساكتاً أو صامتاً على مضض، والشباب الذين أغضبهم التنكّر لمجاهداتهم، ومحاولة دهاقنة السياسة سرقة تضحياتهم، والنساء اللائي وجدن أنفسهنّ، هنّ وأجندتهنّ، خارج المعترك تماماً.
أولاً، تَجَاوب السودان بعمقه الريفي مع أهداف الثورة الحالية، ثورة البنفسج التي اختلط فيها 
الأبيض، على الرغم من حرص السودانيين على السلمية، بالأحمر الذي يستهوي الطغمة العسكرية، بيد أنه أصبح من الصعب، إذا لم نقل من المستحيل، استتباعه، كما كان يحدث في الماضي، أو تجيير إرادته من خلال الاختيار لقيادات رخوة، غاية ما تصبو إليه هو الحصول على امتيازاتٍ تسهل لهم مهمة التماهي مع النخب المركزية، والتعالي على ذويهم في الهامش، بحكم ما اكتسبوه من منصبٍ وجاه.
التحصن ضد أي رِدة سياسية، فكرية، أو حتى عسكرية، يتطلب إيجاد تفاهمات بين القوة المدينية التي تتولى التفاوض حاليا، نيابة عن المعتصمين، ومجتمعات الريف متمثلة في قياداتها المدنية والأهلية، لا سيما أن الريف تَعَدّى خانة الخصوصية الجغرافية، وانداح في فضاءات ثقافية واجتماعية، هيأت له فرصة التفاعل الحيوي مع كل القطاعات والهيئات؛ دارفور مثلاً أصبحت في الخرطوم والجزيرة والشرق (دلتا القاش ودلتا طوكر).
لقد رسخ في مخيلة الجماعة، قوى الحرية والتغيير، أن قادة الحركات يمكن أن يساعدوا في تجسير الهوية بين المدينة والريف، على الأقل من الناحية الشعورية في حالة دارفور، علماً أن هؤلاء لم يقوموا حتى الآن بعمل سياسي فعلي أو اجتماعي واقعي، يجعل منهم أناساً فاعلين، دعك من أن يكونوا ممثلين حقيقيين للريف.
ثانياً، إن اتباع نهج قومي لا يعني البتة إنكار الجرائم التي ارتكبت في حق "أبناء السودان الأصليين" (يُسَمَّون تجاوزاً الزرقة)، وعدم الاكتراث للإشكالات البنيوية والمؤسّسية التي تجعلهم في خانةٍ دنيا، بل يعني بالضرورة اتخاذ كل الوسائل الممكنة لمعالجة الظلامات التاريخية بصورة منهجية وموضوعية، تجعلهم والآخرين، كلاً قَيِّماً على نفسه، وليس معتبراً لوصاية تجعلهم في خانة الاستجداء لحقوقهم. يعتبر تقسيم الثروة والسلطة نهجاً غير سليم، لأنه لا يراعي بالاً لضرورة تفكيك بنية السلطة المعرفية والثقافية والاجتماعية.
سرّني جداً يوم نزلت إلى ساحة الاعتصام أن 70% من المعتصمين هم من "أبناء السودان الأصليين"، وهالني، بل أذهلني، وعيهم القومي بقضيتهم، على الرغم من صغر سنهم، وتفهمهم أن الظلامات تحمي في ساحة الجماعية التي تعزّز مفهوم المواطنة، وتغرس قيم الإخاء والترابط الوجداني والإنساني.
لم يكتف القاتل بحرق قرى أهاليهم، وسرقة مواشيهم، والاستحواذ على أراضيهم، إلى آخرها من الجرائم، بل لحقهم في ميدان الاعتصام، والذي كان بمثابة مؤتمر دستوري شعبي، فدمَّر يافطتهم يوم المجزرة، وحرق خيمتهم، وغدر بالنائمين منهم، وصوّب الرصاص نحو صدورهم، وسبَّهم ولعن أمهاتهم، ويوم قدم أهالي هؤلاء المحتجزين لتقديم الضمان، لم يقبلها من الذين ظنّهم من المتربصين، واحتسبهم من المرجفين.
لقد بات واضحا أن السودان قد دخل في فضاء سديمي، لن تخرجه منه غير الإرادة الوطنية 
القادرة على كبح جماح الفئة الباغية، بالتحديد "حُرَّاس الرئيس الراقص" الذين ظنّوا أن بإمكانهم أن يرثوا ملكه، وهم لم يعوا بعد أن الرشاوي لا تُخول شخصاً للاستفراد بحكم بلدٍ فيه هذا المستوى من النضج الحضاري والوعي الإنساني. سينتصر الشعب السوداني لإرادته، ولن تثنيه عن عزيمته لاسترداد حقوقه المنهوبة كل الحشود العسكرية أو الإغراءات المالية. كما لن تنجح كل المحاولات الرامية إلى استتباع السودان، حضارة وشعباً وارثاً تليداً، لصالح مشروعٍ توسّعي، سلطوي واستيطاني، يغنى عن هذه المغامرات الصبيانية تحالفات اقتصادية واستراتيجيات تنموية، يمكنها أن تسهم في معالجة الأسباب السياسية والثقافية والاقتصادية التي عطلت مجتمعات الريف وأفقرتها، وجعلتها تمتهن القتال حرفةً ووسيلةً للتخلص من المسغبة.
ثالثاً، إن حراكاً يحدث تفاهماً، ويتوخّى فيه أن يكون مستداماً، لا بد أن يصطحب معه التصوّف مكونا أساسيا من مكونات الريف في الوسط النيلي خصوصا، فهؤلاء غير كونهم ممثلين أساسيين لمجتمعاتهم، هم يمثلون ترياقاً مضاداً للانتهازيين الذين يريدون التنزه في ساحة الدين، لا خدمته. إن إهمال الفضاءات المدينية (من مدينة)، وخلوها من الكوادر الدينية المؤهلة والفاعلة، أحدث فراغاً استغله واحتله المغرضون الذين لم تكن لهم رغبة أو أهلية لتبني رسالة دينية تربوية، إنّما فقط ترداد أحاديث سكَّنت الطاغوت وأطالت من عمر الباطل.
لا بد إذن من استقطاب كوادر شبابية متزنة، واعية، مدركة وملتزمة، تسعى إلى استنهاض المواطنين، وتوجه همتهم لبناء المجتمعات، وتعمل جاهدة لمراجعة المناهج التعليمية وتنقيحها من شوائب السلفية والأوهام الإخوانية، لا سيما توطين الإرث الصوفي السوداني في هذه الدور المدينية التي خلت من أي منشط فكري أو روحي أو اجتماعي أو رياضي أو ترفيهي، على الرغم من تبجّح الإنقاذيين بالدين. الفراغ الذي لا يُعْمَر بالفضيلة يملأ بالرذيلة. عليه، فإن المطلوب يجب ألا يقتصر على التدابير السياسية فقط، إنما أيضاً يجب أن يشمل التدابير الثقافية والتربوية والتعليمية والإعلامية.
ختاماً، لا توجد معارك مُرجئة مع قوى الحرية والتغيير، إنما هنالك تفاهمات غائبة. ونحن إذ
نُبين هذه النقاط لا ندَّعي معرفةً، إنما سننتظر أجلاً يجب أن تدرج فيه هذه القضايا الملحة على الطاولة، لأن غيابها قد لا يسبب فقط تبرّماً وتوجساً، إنما أيضا قد يحدث ارتكاساً وارتداداً عن الديمقراطية، ويتسبب في البلبلة، ويحول دون تحقق الاستقرار السياسي.
لقد نبّهت في هذه المقالة لشكل التقاطعات والعلاقات البينية التي يمكن أن تعيق إمكانية التحول الديمقراطي، متمثلة في شكل العلاقة الأفقية بين المدينة والريف، العلاقة الرأسية فيما بين الريف وطبقاته المختلفة التي قهرت المستوطنين الجدد (الجنجويد)، ارتضت السلمية، وأبت إلا الانتظام خلف قياداتها المدنية لتحقيق رغبتها في الحرية والكرامة الإنسانية.
لا يحتاج المرء إلى عظيم فكرة، كي يدرك أن المنصة الحالية (قوى الحرية والتغيير) لا يسعها أن تحدث التغيير المنشود، لأنها لا تمتلك الرؤية التحويلية اللازمة لإيجاد مجتمع مغاير، ولا تود الاستعانة بأي جهة استشارية، لكنّا أيضا يجب ألا نسعى إلى إيجاد أجسام موازية على الأقل في الوقت الحالي، كي لا نُضْعِف القوة المدنية أو نعيق دافعية رموزها المُحَرِّكة، سيما المخلصة منها، والرامية إلى تثبيت مبدأ المدنية، وتقنين أصول الديمقراطية (غير الدينية). متى ما استطعنا العبور إلى بر الأمان.
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
D0318FA5-DB60-4F70-8829-AC21791078A5
الوليد آدم مادبو

كاتب سوداني، خبير التحديث والتطوير المؤسسي، ومستشار التنمية العالمية

الوليد آدم مادبو