فتنة صبحي منصور: معارك الفراغ

فتنة صبحي منصور: معارك الفراغ

17 يونيو 2019

بضاعة صبحي منصور الوحيدة الطعن في السنّة النبوية

+ الخط -
خطأ مهني، ما كان يجب أن يقع، لكنه وقع، للأسف، وتم الاعتذار عنه. وما بين الخطأ والاعتذار اشتعلت معركةٌ عبثيةٌ في الفضاء الإلكتروني والفراغ الثقافي، استُخدمت فيها مدفعية ثقيلة، وتحوّل الأمر إلى ما يشبه الفتنة الشاملة، تجاوزت الموضوع الأساس، واتخذت أبعاداً أخرى، أهينت فيها معانٍ، وديست قيم، وانتُهكت قواعد النقاش والحوار بين أطرافٍ هم في حقيقة الأمر طرف واحد في خندق واحد. ليس الخطأ في جملةٍ وردت على لسان في حوار على شاشة التلفزيون العربي، وإنما في جلب المدعو أحمد صبحي منصور من مستودعات منتهية المفعول منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ لا يُعقل أن يسعى أحد للاشتباك مع السخافة ذاتها مرّتين، تفصلهما سنوات عشرون، وخصوصاً أنه، في المرة الأولى، لم تُحدث هذه التفاهات والهرطقات أثراً في تاريخ المعارك الفكرية، وانتهى الأمر بصاحبها بالحياة في الولايات المتحدة الأميركية، لا يذكره أو يهتم به أحد، إلا قنوات يوتيوب تقتات على الإسلاموفوبيا.
أحمد صبحي منصور نكتةٌ سمجةٌ عبرت سريعاً، وفقاعة هواء تبخّرت في أفق الاشتباك الفكري في مصر نهاية الثمانينيات الماضية، فهو ليس نصر حامد أبو زيد، على سبيل المثال، فالأخير صاحب مشروع بحثي رصين وعميق، يمكن الاختلاف معه، بل حتى رفضه، واختصامه، لكن خصومه لا ينكرون جدارة علمية وعمقاً فكرياً في أطروحاته. أما منصور فقد توهم أنه بالإمكان إعادة تسويق هراءاته على هامش معركة أبو زيد، وكالعادة لم يعبأ به أحد.
بضاعة منصور الوحيدة هي الطعن في السنّة النبوية، والتشكيك في مقام النبوة، وإهانة الخلفاء والصحابة، والسباحة في مستنقعات التطاول الفج والسخرية من رموز تاريخية، يؤذي المسّ بها مشاعر عموم المسلمين البسطاء، وقد دار ولفّ بهذه البضاعة سنواتٍ عديدة، فلم يُقبِل عليها أحد، وانتهى بها الأمر مكدسة في مخازن الفتنة والغل، بعد أن عبر بها الأطلسي على متن طلب لجوء.
ولذلك، عندما يطلّ عبر شاشةٍ تنتمي لمشروع عربي ينحاز للجماهير، ويحترم هويتها ويدافع عنها، فإنه من الطبيعي أن تعتري الدهشة كثيرين، وأن يكون هناك غضبٌ على إهانة الخلفاء والسخرية من الصحابة، ووصفهم بالجواسيس على النبي، وأن يكون هناك عتاب ومطالبة بتدارك الخطأ. كل هذا صحيّ ومشروعٌ، بل ومطلوبٌ ومحترم، ويستحق الاعتذار له، وهو ما فعلته إدارة التلفزيون العربي، بإصدار تنويهٍ تعترف فيه بالخطأ وتعتذر عما ورد عبر شاشتها على لسان هذا الضيف الغريب عنها، وعن مشروعها الذي لا يجنح إلى اللعب في منطقة الطائفية. لكن من جانب آخر، تبدو مزعجةً للغاية هذه الحملة التي تجاوزت الموضوع الأساس، لتطعن في أساس المشروع الذي تنطلق منه قناة التلفزيون العربي، ويستبدّ ببعض الهجّامين والهجّائين الشطط لاتهام المشروع والقائمين عليه بأنه ينفذ استراتيجية الحرب على الإسلام ويهدم الثوابت، إلى آخر هذه المفردات التي جرت على ألسنةٍ من المفترض أنها، والمشروع الذي تختصمه، كانا صفاً واحداً في خندقٍ واحد، في مواجهة الاستبداد والطغيان والتصهين، حتى قبيل فتنة أحمد صبحي منصور. ولا أدري كيف زلّت الأقدام، وانزلقت الألسن لإهالة التراب على مشروع كامل، وافتراس القائمين عليه، على النحو الذي يهين العقل والمنطق، ويأخذ في طريقه قيماً، ويسيء إلى الناقد قبل المنقود.
كان مروّعاً أن تقرأ عباراتٍ عن المؤامرة الصهيونية والمسيحية، لمجرّد أن خطأً وقع في برنامج تلفزيوني، لتنتقل فورة العصبية، مثل كرة اللهب، لتلتهم تاريخ عزمي بشارة (أبو عمر) كله (وهو لا يدير التلفزيون العربي أصلاً)، وتتجاوز حدود المنطق، وأبسط قواعد الشراكة القيمية والرفاقة في المشروع الواحد والهم الواحد، وتردّد كلاماً لا يليق ألا بأسراب الحشود الإلكترونية التي تحارب الربيع العربي.
عزمي بشارة ليس فوق النقد، ولم يزعم هو شخصياً ذلك، ولكن أن ينحدر هذا النقد إلى حضيض المعايرة بأنه من عرب فلسطين الرازحين تحت الاحتلال، والحاملين لجنسيته، قسراً، فهذا المؤسف أكثر، والمشين، كون ذلك يطعن في عروبة ووطنية نحو مليون وستمائة ألف فلسطيني من المرابطين في القدس والبلدات الواقعة تحت سلطة الاحتلال، متمسّكين بهويتهم وانتمائهم الحضاري، مسلمين ومسيحيين، بمواجهة محاولات الاحتلال طمس معالم تاريخ فلسطين. ملفتٌ أيضاً أن هذه الحالة من الغضب أوجدت مساحاتٍ لكائناتٍ نشأت وتترعرع في مناخات الفتنة، وتحوّل كل خلافٍ إلى حروبٍ عبثية يؤجهها صغار يلهون بمولوتوف الابتذال، فيجلبون الإساءة للجميع.
وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا