عن أمجد ناصر

عن أمجد ناصر

17 يونيو 2019
+ الخط -
أرأيتَ؟ نحن لم نتغيّر كثيرا
وربما لم نتغيّر أبدا
الألفاظ المشبعةُ
النبرة البدويةُ
العناقُ الطويلُ
السؤالُ عن الأهل والمواشي
الضحكةُ المجلجلةُ
رائحة الحطب القديم
ما تزال تعبق في ثيابنا 
هذه قصيدةٌ لأمجد ناصر، نشرت في مجموعته، رعاة العزلة (1986). .. هل تغيّر أمجد كثيرا في مُقامه في لندن، منذ أزيد من ثلاثين عاما، عمّا كانه في مُقامه في قبرص، وقبل ذلك في بيروت، بل وفي المفرق وعمّان؟ يبدو السؤال لا طائل منه، وغير حصيفٍ أبدا، فمن طبائع البشر أن تتطوّر مشاعرُها وحواسُّها ومدركاتُها وخيالاتُها، مع السنين، فكيف بشاعرٍ، بكاتبٍ، حرفتُه مراودة اللغة، مناوشتُها بقلقٍ دائم، ومشغولٌ ببحثٍ صعبٍ عن ذروةٍ فيها هنا وهناك، عند التعبير عن حبٍّ، عن نجوى، عن ألمٍ، عن فرح، عن غبطةٍ، عن حنين. لكني أجيب إن قارئ شعر أمجد ناصر ونثرِه، في كتبه كلها، منذ أولها "مديح لمقهى آخر" (1979) وصولا إلى "مملكة آدم" (2019)، يعرف تماما أن كتابة أمجد كانت دوما تمضي إلى رهاناتٍ مغامرةٍ في الشكل والمضمون. لا تستسلم للكتابة المستقرّة. وفي البال أن مجموعة شاعرنا الأولى اشتملت على قصائد تفعيلة، فيها حرارة البواكير الأولى، وتمكّنٌ واثقٌ من هذا الخيار، غير أن أمجد ناصر اليوم، والذي قال عنه سعدي يوسف مرة إنه ظلّ مستقلا بنفسه، لا يرفع بيرقا، ولا ينضوي تحت بيرق، لا أجازف في الزعم هنا إنه الصوت الشعري الأميز في قصيدة النثر العربية الحديثة. وفي الوسع أن يقال أيضا إن نصوص أمجد مضت، في بحثها عن التجدّد، إلى منزلةٍ متطرّفةٍ في هذا. وكان صدقا تاما قوله في نصه الجديد "قناع المحارب.."، المنشور في "العربي الجديد"، "أفكّر أن مرضي يشبه حياتي.. تطرّف. لا توسّط، مراودة الأقصى".
وفعلا، لمّا اختار الانتساب إلى الحالة الفلسطينية، النضالية والثقافية، أقام في ضفة اليسار، في تنظيمٍ متطرّف، بوصف ذلك الزمن. كما أنه تَطرَّف في انتقاله من بلدةٍ أردنيةٍ صحراوية، جافّة في فضائها العام، إلى ضجيج المدن الكبرى، إلى بيروت ولندن، وفيهما حضر كاتبا ومثقفا منشغلا بالشأن العربي العام، ومشاركا في السجال الثقافي العربي في الأعوام الأربعين الماضية. وأطلّ، في الأثناء، على مختلف ألوان الحداثة في الكتابة والفنون، وحضرت أنفاسٌ غير قليلةٍ من تأثيرات ذلك كله في شغله الإبداعي الطويل، الكثير. وأقول في شغلِه، لأن أمجد ظل يتعامل مع الكتابة باعتبارها طاقة عملٍ وجهدا، وشغلا جدّيا. وأظن أن قناعته بالكتابة أن تكون كذلك هي ما يعود إليها تطرّفه في آرائه عن نصوص وتجارب إبداعية عربية، عندما لا يتحمّس لها، وعندما يستطيب غيرَها أيضا.
ولكن، ما الذي لم يتغيّر في أمجد، وتطرّف أيضا في إقامته عليه.. هو يجيب في مقابلةٍ تلفزيونيةٍ معه "فيّ من البدويِّ القديم أكثر مما فيّ من الحاضر المتمدّن". وإذ أصف نفسي بأنني من المعجبين بمقالة أمجد ناصر الصحافية، أقول إنني كثيرا ما سألتُ نفسي عن سر كل هذه الرحابة في معجم أمجد الذي يطوّع المفردات العتيقة، والمفردات التي يخطفها من الصحاري. أمجد متطرّفٌ في هذا أيضا. يحتشد شعرُه بالرعاة والأوابد، بالرمال، بالسيوف، لكن لغته في هذا كله صقيلة، بارعةٌ في مناوراتها وألعابها وانتقالاتها من مزاجٍ إلى مزاج، من مكانٍ إلى مكان.
ثمّة جنوحٌ كثيرٌ في شغل أمجد ناصر إلى الإفادة من القديم، وهو الحداثيُّ الذي ما راهن يوما على حداثةٍ مصنوعة، مسروقةٍ، مغتربةٍ، وغريبة. ولذلك أقول إن أمجد واحدٌ من الناثرين العرب الكبار عن الصحراء، هو الذي يعرف لندن مثلما يعرف راحة كفّه، وقد لمستُ ذلك في أكثر من جولةٍ معه في سيارته في لندن.
أمجد أيضا هو المحنّك في القبض على التفصيليّ والعابر والمنسي والمتروك في غضون الانشغالات بأعقد القضايا وأعوصها. ومن ذلك أنه يكتب في يومياته إبّان حصار بيروت في صيف 1982 عن مراقبته النساء اللواتي يظهرن في الشرفات، ويتحرّكن في دواخل الغرف في ثياب النوم.
أختم بأن مما لم يتغيّر أبدا في أمجد ناصر، أقلّه منذ عرفته قبل أزيد من خمسةٍ وعشرين عاما، ضحكته المجلجلة. إنه متطرّف أيضا عندما يضحك. يُشبع ضحكتَه، يعطيها ما يليق بها من غبطةٍ وفرحةٍ وابتهاج، فيما هو ليس صاحب نكتة، إلا أنه يحترم النكتة الجيّدة، ويقدّرها، لا يبخسها حقها، يعطيها إياه غير منقوص.. كنّا، أمجد وجريس سماوي وفيصل الشبول وعبد الوهاب بدرخان ويحيى القيسي ورندة حبيب وأنا، في سهريةٍ بعد ملتقىً في الفجيرة. فاجأنا فيصل وجريس بنكاتٍ مهولة، فادحةٍ في مقادير الإضحاك الذي فيها. ليلتَها ضحك أمجد بغزارة، خفتُ عليه من فرط ما ضحك. كان يطلب من فيصل وجريس أن يعيدا ما يسردان. ليلتَها، أثبتنا، نحن الأردنيون، زيف الأزعومة إننا شعب كشر ولا يضحك. وهنا أطلب من صديقي وزميلي أمجد أن يستعجل مغادرته وعكته الصحية العابرة، فثمّة ضحكٌ كثيرٌ بانتظاره، وبانتظارنا معا، ولطالما ضحكنا في غير مناسبة في لندن والدوحة والرباط وعمّان وأبوظبي، هو الذي جاء في قصيدته القديمة في "رعاة العزلة" على بقائه على الضحكة المجلجلة.
________________________________________________
كلمة ألقيت في احتفالية تكريمية للشاعر أمجد ناصر في عمّان 15 يونيو/ حزيران 2019
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".