مصر التي لا تضيق بالسوريين

مصر التي لا تضيق بالسوريين

16 يونيو 2019
+ الخط -
حتى وهي تحت الاحتلال الإنكليزي، كانت "مصر تتحدّث عن نفسها"، بحسب الشاعر حافظ إبراهيم (1872 - 1932)، وقصيدته التي تغنّت بها أم كلثوم في 1951 قبل الجلاء بفترة قصيرة، وفي القصيدة: ما رماني رامٍ وراح صريعًا/ من قديم عناية الله جندي.
كانت مصر محتلة فيما مضى من أغراب وأجانب؛ فصارت اليوم تضيق بنفسها، ولا تتحدّث، بل تصمت صمتًا طويلًا مريرًا، خصوصا وهي ترى 7120 مناوئًا ومقاومًا سلميًا لنظامها الانقلابي العسكري يلقون حتفهم مباشرة؛ بالتصفية الجسدية، أو الإهمال الطبي داخل السجون، والأغلبية منهم خلال المظاهرات السلمية المندّدة بالممارسات الغاشمة للنظام، من يوليو/تموز 2013 حتى مايو/أيار 2019. وبحسب بيانات المركز المصري للإعلام، وإصداره الثالث من كتاب "السجل الأسود لحكم العسكر.. ستة أعوام من جرائم الانقلابيين في مصر" المنتظر صدوره، فإن 1050 حكمًا بالإعدام مسيساً صدر خلال الفترة المذكورة أيضًا، تم تنفيذ 50 منها، وينتظر 92 آخرون التنفيذ أيضًا بعد استنفاد درجات التقاضي.
ومن ضمن حالة الضيق والكرب العامّين اللذينِ يلفان مصر، ويشملان كل مخلص شريف، إصرار النظام الانقلابي على معاداة حتى "الأحباب والإخوة الضيوف"؛ أولئك الذين في العرف المصري الشائع أصحاب البيوت الحقيقيين قبل أصحابها، حسب بيت شاعري معروف. وإتمامًا للمأساة، وضمن الوقائع الغرائبية التي لن تنتهي إلا بعودة مصر، عبادًا وبلادًا، إلى المسار الديمقراطي، تقدم المحامي المقرب من النظام، سمير صبري، يوم 6 يونيو/حزيران الحالي، بمذكرة للنائب العام، المستشار نبيل صادق، مطالبًا بوضع ما أسماها أطرًا قانونية للسوريين الذين لا يزالون يعملون في مصر؛ بعد تفجّر الثورة في بلادهم منذ 2011، وبعد مغادرة آلافٍ غيرهم مصر بعد الانقلاب.
وفيما يصر النظام المصري على أن الباقين على أرضه يتجاوزون ربع المليون سوري إلى 
قرابة 300 ألف سوري، تفيد إحصائيات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بأنهم نحو 130 ألفًا فحسب. وعلى الرغم من أن تركيا تستضيف نحو أربعة ملايين سوري، بحسب الأمم المتحدة، فيما يحتمل الغرب ملايين آخرين أقل، إلا أن مثل دعوى المحامي صبري لم يتم التقدم بها إلا في مصر الكنانة، صاحبة سابقة الوحدة مع سورية تحت اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، من 22 فبراير/ شباط 1958 حتى 28 سبتمبر/ أيلول 1961.
من دون سند أو بيّنة، أو حتى مجرد قرينة، قال المحامي سمير صبري بوجوب عمل السوريين في مصر وفق ما أسماها "قوانين واضحة وبيئة استثمار صحيحة"، مؤكدًا على ضرورة خضوع أموالهم للرقابة المالية. وفي مذكرته أيضًا من العجائب الكثير؛ ككل مصر في عهد الانقلاب، فهي تحدد أسباب عبور السوريين إلى قلوب المصريين بـ:"وجه بشوش وكلمة حلوة وابتسامة مع كرم حاتمي...". وكأن السوريين مدلسون، عفوًا، يتعمدون استجلاب شفقة المصريين؛ وكأن الوجه البشوش والكلمة الحلوة جريمتان في العهد الانقلابي. أما "الكرم الحاتمي" فهو لدى المحامي لا ينبغي أن يكون من الشعب المصري في استقبال إخوانه السوريين المهجرين الراحلين من طوفان بشار الأسد الدموي، والقنابل التي يستخدمها، بل صار الكرم الحاتمي لدى المحامي الأشهر في مثل هذه الدعاوى لمزًا واتهاما مبطنًا بالحصول على الأموال من غير أوجهها القانونية.
وفي كلمات تفيض بالحقد على نجاحات السوريين في مصر، تمضي المذكرة، المفترض أنها معنية بالقانون، والخروج الواضح عنه، لتقول: "غزا السوريون المناطق التجارية في أنحاء مصر والإسكندرية، واشتروا وأجّروا المحلات التجارية بأسعار باهظة، وفي مواقع مميزة".
هكذا صار الأشقاء السوريون لدى النظام الانقلابي، في جانبه المثير للمشكلات الموصوفة ظلمًا بالقانونية؛ هكذا صاروا "غزاة". ومن هذا المنطلق، تفجرت أسئلة في المذكرة: "هل تخضع كل هذه الأنشطة والأموال والمشروعات والمحلات والمقاهي والمصانع والمطاعم والعقارات للرقابة المالية والسؤال عن مصدرها وكيفية دخولها الأراضي المصرية وكيفية إعادة الأرباح ...؟". وبحسب هذه الكلمات، ذات الإيقاع الحاقد والإنشائي، صار مقدّم البلاغ يمثل دولة ملمّة بالأحوال داخل الدولة المصرية، وإلا فكيف تمكّن من حصر أنشطة السوريين، وتحديد دخول أموال لهم مصر لا تعرف عنها الجهات الرقابية شيئًا، والمحامي يطالبها بأن تفيق لتعرف، وتعامل المستثمر السوري كالمصري، كما في بقية المذكرة التي حدّدت "رؤوس أموال السوريين التي دخلت إلى مصر، منذ بدء الأزمة السورية، قدرت بنحو 23 مليار دولار، أغلبها مستثمر في عقارات وأراض ومصانع ومحلات تجارية"، حتى إن السوريين "اشتروا كذلك الشقق والفيلات، وأصبحت مدينة السادس من أكتوبر بالقرب من القاهرة وكأنها مدينة سورية، وبدت مدينة الرحاب إحدى المدن الجديدة على أطراف القاهرة موقعا تجاريا وسكنيا للسوريين، وكثرت المطاعم والمقاهي، ويصدمك النمط السائد للعلاقات الاستهلاكية المبالغ فيها، والترف المفرط لكثير من هؤلاء السوريين، قاطني هذه المناطق؛ وإن المتابع لسلوكهم في المطاعم والمقاهي والنوادي وأماكن التسوق لا يصدّق أن هؤلاء هم أنفسهم أبناء سورية التي تعاني من ويلات الخراب والدمار والقتل والتهجير".
والكلمات التي تطفر حقدًا وكرهًا على إخوة المصريين في العروبة تشي وتخبر بما في 
المحامي من رغبة في طردهم من مصر، بعد نشر سياسة الكره والحقد عليهم، ما استدعى تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي تسير في الاتجاه نفسه وتزايد وترغي وتزبد؛ مثل قول نبيل مسعود، المعروف بأنه قيادي سابق في تنظيم الجهاد وأحد مؤسسيه في مصر: "النشاط الاقتصادي للسوريين في مصر من أموال التنظيم الدولي للإخوان وغسيل أموال".
لا يعدو الأمر أن يكون ضغطًا من النظام الانقلابي على جميع الساكنين في مصر من أجل إشعارهم بأنهم تحت عينيه الذئبتين؛ وإن مجرّد وجودهم في مصر يساوي أنهم عرضة لمصادرة الأموال؛ بل الويلات والخراب وعظائم الأمور؛ وكله لدى الانقلابيين بالقانون، ومن ذلك الاستفزاز المادي أو (ادفع) بحسب قائد الانقلاب الذي انتهى من تصفير جيوب مصريين كثيرين، واستدار إلى السوريين على أرض بلاده.
لن يجد النظام الكابت حرية أهل مصر عيبًا في نبش جيوب أهلنا السوريين، ودورهم ومحلاتهم، بحجة أنهم غرباء؛ بينما هم أهل بلد، مثلهم مثل المصريين. ولعل الإرهاب الذي طاول المصريين منذ الانقلاب يحاول الآن أن يطاول إخواننا السوريين في مصر، لابتزازهم والاستيلاء على أموال الناجحين منهم. مصر التي تعاني كأقصى ما تكون المعاناة، اليوم، تأمل في يوم قريب، تتحرّر فيه من الظلمة والطغاة، لتحسن استقبال أهلنا السوريين، حتى إن قدر الله لبلادهم التحرّر أيضًا من نير طغيان الأسد الابن، وشبيحته ومناصريه.