أسوار برلين العربية

أسوار برلين العربية

13 يونيو 2019
+ الخط -
قبل أيام، تحدّثت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لخريجي جامعة هارفارد. قالت، في البداية، إن خطابها لن يكون سياسيا تقليديا، بل عن حياتها الخاصة، كثفتها في ستة دروس، استخلصتها من تجارب الحياة.. ما هي، ولماذا تخصص هذه المقالة لها؟
استغرق حديث ميركل 35 دقيقة من المتعة والإفادة، في الاحتفال السنوي لخريجي الجامعة، وسط حضور من الطلاب والأساتذة وأولياء الأمور ورموز فكرية وعلمية من شتى أنحاء العالم. أكثر ما استوقفني، في كلمة ميركل، الدرس الأول بشكل خاص، والذي شعرت لوهلة بأنه موجه لنا، نحن العرب والمسلمين، الذين نعيش، ربما، أسوأ حقبة في تاريخنا المعاصر، وتملأ الكثير منا بما يشبه اليأس من أي تغيير، حيث تنهار الأمة أو تكاد، على أعتاب المشروع الصهيوني العربي. قالت ميركل، في درسها الأول، إن التغيير قادم ولا شيء مستحيل. سأحدثكم اليوم ببعض ما استخلصته من تجارب حياتي، طفلة وعالمة فيزياء وسياسية. وراحت ميركل البالغة 65 عاما تتحدث عن بلدها، حينما كان يُحكم بالديكتاتورية والحزب الواحد والرأي الواحد، (ما أشبه ما تصفه بما يحدث في بلاد العرب!) وعن العالم آنذاك الذي كان يعيش انقساما بين الشرق والغرب، والحروب التي اندلعت، وكان من نصيب أوروبا منها كثيرٌ من القتل والخراب والدمار، (الآن الحروب في بلادنا وفي بيوتنا!)، وعن سور برلين الذي قسَّم بلدها، وفرَّق بين أبناء العائلة الواحدة، وعن كل من كان يحاول عبوره أو تسلقه، وكيف كان مصيره القتل رميا بالرصاص، حتى ظن جيلها أن من المستحيل لهذا العالم البشع، ولهذا النظام الديكتاتوري، أن ينتهيا، لكن حدثت المعجزة وانتفض الشعب، وهدم السور، وتوحدت ألمانيا، (كم من أسوار تفصل الأسرة العربية الواحدة بعضها عن البعض الآخر؟ بل كم هي الأسوار العربية التي تحول دون زيارة فرد من أفراد الأسرة أمه وأطفاله؟ ألا تتحدث ميركل عن واقع العرب اليوم؟). لهذا فإن أول درس أشاركه معكم اليوم، والكلام لميركل، هو أن لا شيء مستحيل، وأنه سيأتي يوم يتغير ما كنتم تظنون أنه حائط صدّ لا ينفذ منه الضوء، فتمسّكوا بالأمل!
انتهى الدرس الأول، وهو اليوم ما يشغل صغيرنا قبل كبيرنا، في ديار العروبة والإسلام، فلم يكن أحدُنا ليتخيل أن العمر سيمتد به، ليرى زعامات وقامات عربية، وشعوبا بأكملها، تقيم 
جدرانا بينها وبين أنفسها، وهي تنسلخ عن جسد الأمة، وتتماهى مع مشروع الصهاينة المحتلين، وتُمعن في خدمة هذا المشروع، فتصبح المقاومة المقدسة للمحتل إرهابا، وتصبح الجماعات الإسلامية النظيفة الشريفة "تنظيماتٍ إرهابية"، ويصبح "أمن الدولة" مرتبطا بملاحقة أبناء الدولة من الأشراف والطيبين، وتصبح محبة فلسطين والإسلام والعرب تهمةً تورد صاحبها موارد الهلاك والسجون، وربما الإعدام.
ما فعله من بنى سور برلين ليتصاغر كثيرا أمام من يبنون أسوارا داخل البيت الواحد، والدولة الواحدة، والمدينة الواحدة، بأفكارٍ ومشروعاتٍ هي صهيونية المنشأ والتخطيط وربما التنفيذ. ومع قتامة الصورة التي تحدثت عنها المستشارة الألمانية، كان ثمّة أمل، حيث انتهى الكابوس بانهيار السور، وتوحد الأمة الألمانية، وهو درسٌ بليغٌ على دعاة اليأس في دنيا العرب أن يعوه جيدا، فالتغيير قادم، كما قالت، وهو سنة الحياة.
الدرس الثاني الذي مس شغاف قلبي حديث ميركل عن أوروبا، وتمزّقها والحروب التي طحنتها، وانتهت بأوروبا متحدّة، ومتحابّة، تعيش رفاهيةً يضرب بها المثل. اقرأوا وصف ميركل حال أوروبا، وكيف تغير، وكأنها تتحدّث عن حالنا اليوم، قبل التغيير. تقول إنه بالديمقراطية والسلام تتحقق الحرية، ويعم الرخاء، إن أوروبا التي ترونها اليوم في رفاهية 
وتقدّم كانت قد شهدت قرونا طويلةً من التخلف والحروب والصراعات السياسية والدينية والحكم المطلق والاستبداد الديني والسياسي. وإنني (والحديث لميركل) قد عشت زمانا كانت بلادي ألمانيا إبّان الحكم الديكتاتوري تنخرط في حروبٍ تترك وراءها مئات آلاف من القتلى في الشوارع وملايين المشردين والجياع، (هذا حالنا اليوم، من العرق إلى ليبيا إلى اليمن، إلى مصر، فالسودان، والجزائر، وفلسطين، والحبل على الجرار). ولكن هذا كله انتهى بفضل قيمتين، أود أن أتشاركهما معكم اليوم، إنهما: الديمقراطية والسلام، فبهما استطعنا أن نبني أوروبا، ونحقق لشعوبنا التقدم والرخاء والحرية والكرامة. الاتحاد يحول دون العودة إلى أزمنة الصراعات والحروب.
الدرس الأخير هو درس الوحدة؛ انظروا إلى أوروبا، تقول ميركل، كيف كان حالها حينما كانت كل دولة تعمل بمفردها؛ كيف كان يسود فيها الصراع، وتندلع الحروب، ثم كيف أصبحت، حينما اتحدت، وأصبحنا نعمل معنا، فالدرس أن الاتحاد، على الرغم من كل ما يقال حاليا عن مشكلاته، أفضل من عدم الاتحاد؛ أفضل من العمل المنفرد، ومن انعزال كل دولة وانكفائها على نفسها، فنعود نعاني ما تجرّعنا مرارته، حتى عهد قريب.
دروس ميركل هذه حريةٌ بأن نقرأها مرارا وتكرارا، وسط هذا المشهد المريع لبلادنا، فلا شيء يدوم، والتغيير قادم. وعلينا أن نتسلح بالأمل والعمل، وأمامنا تجاربُ واقعيةٌ للأمم التي حولنا، كيف كانت وكيف صارت، حتى أميركا التي تحكم وتتحكم بالعالم اليوم، عاشت حقبة من الحروب الأهلية التي طحنت الملايين من البشر، قبل أن تتحد، وتقف على رأس سكان الكرة والكوكب، فلا تيأسوا، يا عرب، فما نعيشه اليوم مجرّد مرحلة وسنتجاوزها، طالت أم قصرت، وسيأتي يومٌ ليقف زعيم عربي شريف، ليحدّث خريجي هارفرد عن مأساتنا، وكيف صارت من الماضي.