لا مكان للساروت في قواميسكم

لا مكان للساروت في قواميسكم

12 يونيو 2019
+ الخط -
كحارسٍ محترفٍ لها، آمن بالثورة في بلاده سورية. أغواه جمالها وجمالياتها، فحازت على قلبه، وأصبحت رئتيه اللتين يتنفس بهما. عشقها بوجدِ الولهان، وغنّى لها، وخَطبَ بأهلها. لم يترك مناسبةً إلّا وكان في مقدمة نشاطاتها، واحتفالاتها. لم يكن قبلها (العام 2011) يتقن الصلاة؛ الألم والحصار والجوع والاعتقال والموت تستدعي الله والأنبياء، حينها تعلّمَ بعض أصول الدين وصلى لرب العباد، ليجد للبلاد خلاصاً من الأهوال التي بدأت معالمها بالظهور. لم تكن نصرةُ الدين هدفه، ولن تكون، فلهذه الغاية أصحابها وأهلها وتجّارها ومجانينها؛ كان يبتغي مؤازرة مدينة درعا، والإفراج عن المعتقلين، والاعتراف بالحريات، وإيقاف الفساد وكل أشكال التطييف. رَغِبَ ابن الثامنة عشرة بإصلاحٍ يُجنب البلاد المآسي التي صارت إليها، ولكنّ هذا الإصلاح لم يأتِ. بعدها تكثف القتل الهمجي، والذي كان سبباً في الانتقال من الإصلاح إلى الإسقاط.
أحبَّ عبد الباسط الساروت سورية "جنّة جنّة جنّة"، ليس لنفسه أو لطائفته، بل أحبّها من أجل كل السوريين؛ فهو ابن حمص، حيث التعدديّة بكل أشكالها، مسيحيين وعلويين وسنّة، بدوا ومدنيين، عربا وتركمان وشركسيين، سفورا ومحجبين، شيوعيين وبعثيين وإخوانا... وفي الثورة تَشاركَ تأييده لها، وانخراطاً فيها، مع باسل شحادة وفدوى سليمان، وآخرين كثر، ومن كل الانتماءات. قوبل حبّه ذاك بمزيدٍ من القمع والقتل والمجازر والدمار والحصار والتطييف وتقسيم حمص على أساسٍ طائفي!
رفض النظام الاعتراف به وبالثورة، وغرقت أغلبية قيادات المعارضات بالفساد، وبترتيب
 علاقاتٍ تصبح عبرها أداةً للدول، وتنفذ سياساتها وتَحمِلها على طبقٍ من ذهب إلى السلطة. ليس الساروت سياسياً، ولم تمدّ له يدُ المساعدة؛ حُوصر وجاع وأكل أوراق الشجر، ونحف. ولكنه لم يُصالح، ورفض كل عروض الإغراء، وأصبح من المطلوبين للنظام وبكل السبل، قتلاً أو أسراً، وخُصص لمن يقتله مال، وداهنه بتسويةٍ تُعطيه امتيازاتٍ كُبرى؛ لم يقبل الحارس، ولم يداعبه حلم العودة إلى الطاعة وأيّة طاعة أخرى.
حوصر عبد الباسط الساروت في حمص، وحاول الصمود بكل السبل. ويقول الموالي والمعارض إن الأحياء التي أصبح يحكمها مع آخرين لم تتعرض للسرقة والنهب والتعفيش؛ إطلاقا ومطلقاً، فقط أخذوا الطعام والوقود، أي ما يقيهم من الموت جوعا أو برداً. هذا يوضح الأخلاق التي يستند إليها الرجل، والحلم الذي يسعى إليه، فهو لم يكن إلّا ثوريّاً، وفعل كل ما يستطيع للوصول إلى غايته. قُتل أهلُه، وأصيب أكثر من مرّة وقُتل رفاقه. وحينما غادروا مدينته، خرجوا بأسلحتهم الفردية، ومن لم يمت من أهلٍ ظلّوا مع أولادهم المقاتلين. وبعزيمة العودة إلى حمص؛ لم يغادر ذلك الحلم، وظلَّ يجول في فؤاده، وكأنّه حبيبته السرية، ولكنها المعلنة أيضاً، فتطابق في وجدانه السر والعلن، ومات وهو يسعى إلى هدفه. كان في وسع الساروت استثمار أنه رياضي، ومغنٍّ، ولديه حقيقة وأسطورة الحصار والصمود، واستشهاد كثيرين من عائلته؛ أبى إلّا العودة إلى ميادين القتال. من هنا، يمكن أن نفهم أسطورته، والحب الذي كان له قبل الاستشهاد وبعده.
حاولتُ تقصّي حكاية الجهادية، والأقوال التي نسبته تارةً إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتارةً إلى جبهة النصرة، وتبيّن أنّه لم ينضوِ يوماً تحت أيّ من رايتيهما، بل ولوحق وحوصر منهما، واضطر بسبب ذلك للهرب إلى تركيا، ثم عاد إلى وطنه؛ فهو لم يجد مبرّراً للبقاء في الخارج. وحالما عاد حاكمته جبهة النصرة، ثم أسقطت الاتهامات ضده؛ هذه هي القصة أيها المنافقون. حينما اقترب من "داعش"، لم ينضوِ فيها، وتمَّ ذلك لأن كل سبل المساعدة أغلقت في وجهه ولأسباب أخرى. وحالما تبيّن له أن "داعش" فصيل لقتل الثوار، ابتعد عنه، وكذلك فعل مع جبهة النصرة. نعم، لم يقبل الرجل تلويث دمه وسيرة الثورة، وعاد إلى القتال، وبأسوأ الشروط.
الساروت هذا أيقونة. نعم، فهو يمتلك كل أسباب الحياة، ويرفضها من أجل الانتصار لقضيته، 
ويعلم أن ذلك قد يُفقده الحياة؛ ذلك الفناء الذي سبقه إليه أهله ورفاقه، وما خانهم، وما صالح وما صار سلفيّاً أو جهاديّاً؛ إمّا أن تفهم الأمر كذلك، أو أنت تبتغي الصيد القذر، وليس العكر فقط. تتحدّد قيمة الإنسان في أفعاله. والفعل يجمع القول والعمل. لم يبتدع الرجل أمراً ليس فيه، وأسطورته شكلتها أفعاله، وتمايزه عن سواه ومعهم، والسؤال: ألا تستحق الجلجلة السورية أنبياء وملائكة وأيقونات؟ المقاييس التي تمجّده كإلهٍ ليست صحيحة، والتي تشيطنه ليست صحيحة، والتي تُخرجه من جنة قواميس الثورات المتخيلة أيضاً ليست صحيحة. الحقيقة أنّه ابن مدينة حمص العديّة، خاض كل معاركها، ورَهنَ حياته للقضية التي وجدها مُحقة، وهو بذلك انسجم مع ذاته ومع الشعب، كما قال هو، والتزم بذلك.
إن كان من مدانٍ، بكل مالآت سورية، فهو النظام أولاً، والمعارضة بكل تنويعاتها ثانياً، والدول الخارجية ثالثاً، وبالتأكيد التنظيمات الجهادية، والتي ليست أكثر من أدواتٍ سياسيةٍ لصالح الدول، ويقودها جهاديون منفصلون عن العصر، ويبتغون إعادة الزمن إلى لخلف، وهذا غير ممكن. أمثال الساروت كانوا مجانين بالمعنى الثوري فقط؛ سعوا من أجل الثورة واستشهدوا من أجلها؛ هو ورفاقه، وكثيرون لا يعرفونه، ولا يعرفهم، وفي كل المدن السورية.
لنتأمل المشهد: لو أن النظام اعترف بسلميّة الثورة في الأشهر الأولى وأفرج عن الحريات والديمقراطية، وحاسب الفاسدين؛ هل كان سيحصل في سورية ما حدث؟ هل كان الجيش سينشقّ، وتُدمر البلدات والمدن، ويُقتل نحو مليون سوري، ويُهجر ملايين آخرون، ويصبح السوريون لاجئين بالملايين! هنا أس كل الحكايا، ولهذا يصبح نقد سيرورة الساروت معدومة الموضوع، وكلاما خارج السياق، والأنكى أن الأمر كلّه كذبٌ بكذب.
لم تُقنع الساروت إلا أهداف الثورة الشعبية كما ملايين السوريين، ولم يسعَ إلّا من أجل تحقيق أهدافها. ومن هنا تشارك مع فدوى سليمان وباسل شحادة وغيرهما. ومن هنا مناشدته كل أهالي سورية، ومهما كانت مذاهبهم، للانخراط بالثورة التي كان حارساً لها، وأبى إلّا أن يستشهد من أجل حلمه بانتصارها يوماً ما. وفي سياق ذلك، حارب النظام وقاتل الجهاديين، وظل ينسج أسطورته، ويتمايز. وبالتالي من الخطأ تشبيهه بسواه، إنّه يُشبه ذاته فقط. وفي هذا، يتمايز عن أيقونات الثورة، فلكلٍّ منها تمايزها، وفي تمايزاتها تتكامل العزائم وتتأسطر وتشدّ.