هل من قانون للسوريين؟

هل من قانون للسوريين؟

02 يونيو 2019

أمل عرفة في مشهد من مسلسل "كونتاك"

+ الخط -
أصدر المُشرّع الفرنسي سنة 1990 قانوناً يُجَرّم معاداة السامية، كما معاداة الأجانب والعنصرية، وعُرف أكثر بجانبه المرتبط بمعاداة السامية ونفي وقوع المحرقة. فقد خص بالذكر من ينفي وقوع الهولوكوست، أو يُشكّك بمعاناة اليهود في أثناء الحكم النازي، الذي حمل معه مشروع "الحل النهائي" للتخلّص من مجمل يهود أوروبا، وأودى بحياة ما يُقارب ستة ملايين منهم. حمل القانون اسم من اقترحه، وكان حينذاك وزير النقل المنتمي للحزب الشيوعي، جان كلود غيسّو. ومنذ صدوره، يعتبر قانونيون كثيرون أن نصاً يحمل مثل هذه المضامين يمكن له، إن أُسيء استعماله أو تفسيره، أن يُشكل قيوداً على حرية التعبير. ويستند هذا التخوّف المشروع على إيمان مطلق بمسألة الحرية، يُميّز نسبةً لا بأس بها من العاملين في الشأن الحقوقي. واعتبر هؤلاء أن حماية حقوق التعبير، لا تتعارض مع الحفاظ على القيم الجمهورية والعلمانية والأخلاقية. إلا أن مناصري القانون، وكانوا سياسيين في غالبيتهم العظمى، ذكّروا بتاريخ فرنسا غير المشرّف فعلاً في عملية التعاون مع الحكم النازي إبّان حكم الماريشال فيليب بيتان (1940 ـ 1944)، الذي تجسّد خصوصاً باعتقال السلطات الفرنسية حينذاك اليهود الفرنسيين، وإرسالهم إلى المعتقلات النازية، ليلقوا حتفهم.
صار اللجوء إلى هذا القانون الذي يستمر العمل به، على الرغم من تشكيك حقوقيين كثيرين به، حجّة في القليل من الأحيان لانتهاكات غير ذات أهمية لحرية التعبير لدى بعضهم، ولكن تطبيقه كان محصوراً فعلاً بالنفي أو بالتشكيك. كما تم الخلط بين مسعاه ومسعى تعميم تهمة "معاداة السامية"، التي جرى ويجري استخدامها من دون رويّةٍ في كل مناسبة، إلى درجة أوقعت المسؤولين الحكوميين، وفي مقدمتهم إيمانويل ماكرون رئيس الجمهورية، في فخ الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.
اقترح الرئيس الفرنسي قبل أسابيع تعديل القانون، ليضم إلى جانب مساءلة من ينفي وقوع 
الهولوكوست، محاسبة من ينفي وقوع المجازر بحق أرمن الأناضول. وقد ترافق هذا الإعلان، الذي أثار غضب الحكومة التركية، مع ذكرى وقوع هذه المجازر في بداية القرن، التي ترفض الدولة التركية الحديثة، غير المسؤولة نظرياً عنها، التصالح مع تاريخٍ ليس ببعيد، والاعتراف بمسؤولية الدولة العثمانية التي ورثتها عن هذه المجازر التي جرى توثيقها بتفاصيلها المؤلمة. ويغيب طبعاً عن المشرّعين الغربيين، وخصوصاً في الدول التي شهد تاريخ استعمارها بعض بقاع الأرض، مجازر وانتهاكات ممنهجة عديدة، كما في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي مثلاً، أو التي شهدت حكوماتها المعاصرة على مظاهر دعم لأنظمة نفّذت المجازر بحق بعض مكوناتها، كما حال فرنسا مع المسألة الرواندية في تسعينيات القرن الماضي. كل ما سبق وسواه، لم يتم التعامل معه بالروحية نفسها التي ألزمت المشرّع بإصدار قانون غيسّو.
مناسبة هذه الإشارة التاريخية هو ما فجّرته مشاهد أنتجتها الدراما السورية أخيراً، وأثارت غضب سوريين عديدين، وفيها تهكم واضح على موتى السوريين، وتشويه للحقيقة ونفي واضح لوقوع انتهاكات ومجازر واعتداءات بالسلاح الكيميائي على المدنيين.
من الهامّ الإشارة إلى أن الدراما السورية كانت دائماً مطيّة للسلطة السياسية، لتشويه التاريخ القريب كالبعيد. كما تم استخدامها لإرسال رسائل سياسية إلى أطراف عدة. وعلى سبيل المثال، في مرحلة تحسّن العلاقات مع فرنسا، استعرضت الدراما مرحلة الانتداب بطريقةٍ أكثر من محابية. وحينما تسوء، يصبح الجندي الفرنسي أسوأ من عسس هولاكو. كما في مراجعة الحقبة العثمانية، فحين تكون العلاقات مع تركيا حسنة، ويقضي قادة البلدين إجازاتهم العائلية تناوباً لدى بعضهم البعض، كان مطلوباً من الدراما أن تقدم المرحلة العثمانية مرحلة ازدهار وثراء للمنطقة عموماً، ولسورية خصوصاً، والعكس صحيح.
إذا لا غرابة في وجود الاستخدام السياسي الرخيص للدراما، لكنه في المرحلة الحالية تخلى عن 
أي لغة مواربة، وأضحت الدراما أداة في يد أجهزة أمنية متنوعة، هي مصدر فخر بعض عامليها. فالمشهد المُدان، كما العمل الذي احتواه، ليس هو إلا تتويجاً لخواء فكري وأخلاقي. ولن يتوقف الأمر عند هذا الفعل الشنيع، والذي تجسّد في التهكم على موت جزءٍ من السوريين، بل سيستمر وستستمر الأكاذيب، ما دامت فئة من الرأي العام المحلي تصدقها، وفئة كبيرة من الرأي العام العربي التي تخلّت عن اتخاذ أي موقف إنساني، والباحثة عن تبريرٍ ما، تصدّقها ايضاً نتيجة تقهقر الثقافة والمعرفة، كما الحسّ النقدي. في المقابل، ينقص الطرف الناقد أو المندّد بهذا الانفلات الأخلاقي التنظيم، والعمل بموضوعية بعيداً عن المبالغة والاختلاق اللذين يسيئان لأيّ قضية، مهما كانت عادلة.
هل سيخطُّ السوريون يوماً قانوناً لكي يدينوا، أخلاقياً على الأقل، من ينفي وقوع الفظائع، ويتهكم على الضحايا من أيّ فئة أو جهة كانوا؟ ومهما كان الطهرانيون من المشرّعين معادين لقانونٍ كهذا سيحدّ من بعض الحريات ربما، إلا أنه سيكون ضرورياً في مرحلة إعادة البناء الأخلاقي التي ربما يسعى إليها بعضهم.