رمضان وباب الحارة وأيام شامية

رمضان وباب الحارة وأيام شامية

02 يونيو 2019
+ الخط -
اقترحتُ على الإخوة القراء، في مقالة سابقة، أن نترك الحديث عن رمضان بوصفه شهراً مقدّساً، مباركاً، لأهل الاختصاص من الإخوة المشايخ وأصحاب الفتاوى، وهؤلاء لا يقصّرون معنا بالطبع، بل إنهم يُعْطوننا حكماً وأمثالاً ومواعظ وفتاوى أكثر مما نستحق، ومما نطلب.. وكتبتُ إن من حقنا وواجبنا، فيما عدا ذلك، أن ننتقد المظاهر الاجتماعية، والدرامية، والإعلانية التي التصقت برمضان في العصر الحديث، وبعضُها تحوّل إلى أمراض، بل وآفات، وجوائح..
مَنْ يتابع الفضائيات العربية في هذا الشهر فلا بد أن يرى العجب العجاب، ابتداءً بالبرامج التفاعلية التي يبارك فيها أناسٌ قد لا يكون الصيامُ بالمعنى الديني مفروضاً عليهم للمذيعة وفريق الإعداد الذين لا علاقة لهم كذلك برمضان والصيام، والكل يقول: رمضان كريم وينعاد عْلَيْكْ، وينعاد عْلَيْكِي.. ألو.. مين عَمْ يحكينا؟ أنا سونيا من جونيه.. أهلاً يا سونيا، رمضان كريم ينعاد عليكي..
لا اعتراض مني، بالطبع، على أن يحتفل كلُّ الناس بالمناسبات الإسلامية، والمسيحية أيضاً، وأن يتبادلوا التهاني، ولكن ما أعنيه هو "المصداقية" الغائبة عن كل شيء في حياتنا تقريباً، وأخصّ بهذا الغياب للمصداقية مسلسل "باب الحارة"، باعتباره الحدث الدرامي الأبرز الذي ما فتئتْ محطاتٌ فضائية سورية وعربية ضخمة تروج كل جزء منه، وكل حلقة من حلقاته، منذ سنة 2006، وقد صُرِفَتْ أموالٌ كثيرة على هذا الترويج، حتى إنني، في إحدى السنوات، لاحظتُ أمراً غريباً، أن الجهة المُرَوِّجة كانت تبيع للإخوة المواطنين العرب، نسخة حصرية من حلقات باب الحارة القادمة، ليصبح بإمكان هذا الزبون المشتري أن يلتهم وجبات المشاهدة كلها، وبشراهة، ثم يزهو على أقرانه بأنه شاهد حلقات باب الحارة العظيمة، قبل أن تعرض على باقي عباد الله الصالحين.
فكرة "باب الحارة"، في الأساس، مشتقة من تجربةٍ يمكن تسميتها "الدراما الفولكلورية" ابتدأت في سنة 1992 بمسلسل "أيام شامية" الذي كتبه أكرم شريم وأخرجه بسام الملا، ويناقش قضايا الإنسان البسيط الذي عاش قبل حوالي مئة سنة، وهو غارق بهمومه اليومية الصغيرة، ولا يهتم بالسياسة والشأن العام.. ولكنه، في الحلقة الأخيرة يرينا كيف دافع أهل الحارة عن (عِرْضِهم) تجاه الدرك العثمانلي، وشارك كبير الحارة (الذي كان يقول عن كل مسألة تعرض أمامه "زغيرة") في الدفاع عن العِرْض، باعتباره مسألة "كبيرة".
ما إن انتهى عرض حلقات "أيام شامية"، حتى اسْتُدْعِيَ الكاتب أكرم شريم، وطُلب منه كتابة جزء ثانٍ، ومُنِحَ سلفة مالية لكي يستطيع التفرّغ للكتابة، ولكن قريحة الرجل، على ما بدا، لم تسعفه، والسبب أن الحكاية التي كتبها في الجزء الأول كلها على بعضها "زغيرة".. حكاية رجلٍ يرهن شاربيه ريثما يتمكّن من سداد دينه، ولا تستحق كل هذه الاحتفالية والهُلّيلة والزنبريطة وجزء ثان وثالث.. وفي تلك الآونة، تداول العابرون في أروقة التلفزيون السوري خبراً أن حافظ الأسد، شخصياً، تابع هذا العمل باهتمام، وهو الذي أمر بإنجاز جزءٍ ثان منه، وأكّد الرواة، يومئذ، أن حافظ قد رأى نفسه في دور "كبير الحارة".. وفهمكم كفاية.
أصحاب النظرات الثاقبة، العارفون بأحوال الأسواق والتسويق، الذين يشاهدون البعوضة في أثناء طيرانها، اغتنموا هذه الفرصة، وبدأوا إنتاج سيل جارف من الأعمال الدرامية "الفولكلورية"، وصولاً إلى "باب الحارة" (ابتداء من 2006)، وهو مسلسل يطبق الحكمة القائلة "الجمهور عاوز كده" بحذافيرها، ينتصر للرجل ضد المرأة، ويجعل من موضوع تعدّد الزوجات شأناً عادياً، بل هو من حقوق الرجل، وهو لا يرى شيئاً من مفاسد السلطة الحالية، ويلقي بكل تبعات القهر والاستبداد والاستغلال على المستعمر الفرنسي البغيض، حتى إنه في الجزء العاشر يذهب إلى أن فرنسا قصفت الأهالي بالطيران، وقتلت من قتلت وهَجَّرَتْ من هجرت. فتأمل!

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...