ليبيا وأسئلة حائرة

ليبيا وأسئلة حائرة

09 مايو 2019
+ الخط -
في الأول من سبتمبر/ أيلول عام 1969، وبينما كان ضباب هزيمة يونيو 1967 يُخيّم على أجواء المنطقة العربية، ويُشيع جواً من الإحباط في الوجدان العربي، وخصوصا أن النظام الناصري في مصر كان قد سوق تلك الهزيمة، باعتبارها ضربة للتوجه "القومي العربي التقدمي" الذي يقوده جمال عبد الناصر.. في تلك الأجواء، استيقظ العالم العربي، في ذلك اليوم، على خبر الانقلاب العسكري الذي قام به ضباط ليبيون ذوو رتب صغيرة، كان قائدهم، معمر القذافي، يبلغ 27 عاماً، برتبة ملازم أول فقط. ونجح الانقلاب في الاستيلاء على السلطة، وخلع الملك إدريس السنوسي، والذي وحّد ليبيا، وأقام "المملكة الليبية المتحدة" في 24 ديسمبر/ كانون الأول 1951، بعد فترة طويلة من التمزق والاحتلال والنضال، والذي كان أمير برقة، إدريس السنوسي، أحد رموزه الوطنية، وكان أول وآخر ملك لها، وانتهى به الأمر إلى اللجوء إلى مصر بعد الانقلاب الذي حمل فيما بعد اسم "ثورة الفاتح من سبتمبر"، وقدّم نفسه من روافد التيار الناصري القومي العربي التقدمي، وأنه أسقط أحد نُظم الحكم الملكية الرجعية. وكان طبيعياً أن ترحب مصر عبد الناصر بما حدث، على الرغم من استقبالها الملك إدريس السنوسي، والذي لم تكن تحمل له مصر أي شعور عدائي.
رأى عبد الناصر في القذافي ورفاقه تجديداً لحركة الضباط الأحرار التي قادها في بداية الخمسينيات، وتعرّضت لضربة قاصمة في يونيو/ حزيران 1967. وبدأت مسيرة القذافي التي استمرت 42 عاماً، حتى تفجرت ثورة 17 فبراير، في سياق ثورات الربيع العربي 2011، والتي أنهت حكم القذافي وأولاده، ونظامه الفريد. نظام دولة سماها القذافي في 1977 "الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية" ثم أضاف إليها لفظة العظمى في 1986، وأعلن تسليم السلطة، شكليا، إلى اللجان الشعبية العامة، في واحدٍ من أشكال الديموقراطية المباشرة أو "الأثينية"، وهو ما لم يتحقق أبداً، ثم أطلق على نفسه لقب "ملك ملوك أفريقيا".
السؤال الأكثر إلحاحاً هنا: ما الذي فعله القذافي ونظامه وأولاده بليبيا خلال تلك الفترة الطويلة من الحكم، والسيطرة، على مقدرات واحدةٍ من أغنى دول أفريقيا، ومن أكبرها مساحة (1,8
 مليون كيلومتر مربع) وعدد سكان لا يتجاوز ستة ملايين نسمة، بينما هي من بين عشر دول تمتلك أعلى احتياطي نفطي عالمياً، ومتوسط إنتاجها اليومي مليونا برميل، قابلان للزيادة إلى أربعة ملايين؟ لعل في وقائع الثورة الليبية، ومساراتها، وتداعياتها، المستمرة، بعض الإجابة على السؤال. بداية، لا بد من الاعتراف بأن الحالة الليبية خاصة، في سياق ثورات الربيع العربي، إذ تفجرت ثورة الشعب في 17 فبراير/ شباط 2011، وبدأ الحراك الجماهيري في بنغازي، في أعقاب سقوط زين العابدين بن علي في تونس في 14 يناير/ كانون الثاني، وحسني مبارك في مصر في 11 فبراير، وكان رد القذافي الفوري هو التعامل العسكري العنيف مع المتظاهرين، وتطورت الأمور بسرعة، حتى شملت كل أنحاء ليبيا، ووجدت الثورة الليبية، بصفة خاصة، دعماً دولياً واسعاً، في مواجهة رد الفعل العنيف، والمتهور، من العقيد القذافي، وتبلور الدعم في التدخل العسكري المباشر لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى جانب الثوار، بدعم عربي، خصوصا من الدول التي لدى نُظمها مواقف خاصة ضد القذافي، وسياساته، بصفة شخصية، على الرغم من عدم تعاطف بعض تلك النظم مع ثورات الربيع العربي، بل ودعمها الثورات المضادة بعد ذلك. وانتهى الأمر بسقوط القذافي، ونظامه، ومقتل القذافي وأحد أولاده بشكل مأساوي، خلال مطاردته في منطقة سرت، وتم إعلان نجاح الثورة، وتحرّر ليبيا في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011.
المثير أنه، بسقوط نظام القذافي، تفككت الدولة الليبية تماماً، وتلاشت مؤسساتها، خصوصا المسماة "سيادية"، مثل القوات المسلحة وأجهزة الأمن الداخلي والشرطة وأجهزة الحكم والإدارة، وكأنها تعود إلى الوضع الذي كانت عليه قبل 24 ديسمبر/ كانون الأول 1951، وتوحد أقاليمها الثلاثة على يد السنوسي، وبدأت النزعات القبلية والعشائرية والمناطقية والطائفية تشهد صحوة جديدة.
سلكت الثورة الليبية مسارات مضطربة، بعد أن بدأت بتشكيل مجلس وطني انتقالي في 27 فبراير/ شباط 2011، ثم تم انتخاب مؤتمر وطني عام في 7 يوليو/ تموز 2011، وتم
 انعقاده بالفعل في 8 أغسطس/ آب. ولكن المؤتمر الوطني فشل نحو عامين في لمّ الشمل الليبي، والتأسيس لنظام جديد مبنيّ على أسس ديموقراطية، وانتهى الأمر بانتخاب مجلس جديد للنواب في 25 يونيو/ حزيران 2014، تم انعقاده في طبرق في 4 أغسطس/ آب من العام نفسه. وفي ظل تلك الأجواء المضطربة، ظهر في المشهد خليفة حفتر، وهو ضابط ليبي متقاعد، غاب عن بلاده نحو 15عاماً، عندما وقع في أسر القوات التشادية، ثم أعلن، وهو في الأسر، انشقاقه عن القذافي. وبعدها تدخلت أميركا لدى تشاد للإفراج عنه، وتسلمته وكالة المخابرات المركزية، ليعيش في الولايات المتحدة تحت رعايتها، ويحصل على الجنسية الأميركية. أعطى حفتر نفسه رتبة الجنرال، وظهر بالملابس العسكرية على إحدى القنوات العربية، من دبي، في 11 فبراير/ شباط 2014، ليعلن عزمه على العودة إلى ليبيا وقيادة ثورتها. وفي 16 مايو/ أيار من العام نفسه، ظهر حفتر، ليعلن انطلاق ما سمّاها "عملية الكرامة" لتحرير ليبيا من الإرهاب والجماعات المسلحة.
عاد حفتر إلى ليبيا، مدعوماً من مجلس نواب طبرق الذي أصدر قراراً بتعيينه قائداً عاماً للجيش الليبي، وترقيته إلى رتبة مشير، فتلقى، بصفته هذه، دعماً إقليمياً ودولياً، من بعض القوى الرئيسية، خصوصا الدعم العسكري، ومكّنه ذلك من إقامة ما يشبه الدولة داخل الدولة الليبية في المنطقة الشرقية، وأجزاء من المنطقة الجنوبية، ورفع الشعار صاحب القبول الدولي، محاربة الإرهاب ومنع الهجرة غير الشرعية إلى سواحل أوروبا.
انتهت الأوضاع في ليبيا، بعد أكثر من ثماني سنوات على تفجر ثورتها الشعبية، وسقوط القذافي، إلى مجلس نواب في طبرق، تتبعه حكومة مؤقتة في البيضا، وقوات خليفة حفتر المسلحة تسيطر على ذلك كله، على الرغم من افتقاد تلك المؤسسات الاعتراف الدولي. وعلى الجانب الآخر، في طرابلس والمنطقة الغربية مجلس رئاسة، وحكومة مؤقتة "حكومة الوفاق" منبثقة عن اتفاق الصخيرات الذي تم برعاية الأمم المتحدة، وتحظى باعتراف دولي، وتتبعها 
قواتٌ مسلحةٌ ورئاسة أركان. وإلى ذلك، تدير مليشيات قبلية، وجماعات متطرفة، ومتمردون، بعض مناطق ليبيا. وبينما تبذل الأمم المتحدة جهوداً حثيثة للوصول إلى حلول سياسية تضمن وحدة ليبيا وسلامة أراضيها، وبناء مؤسسات الدولة المركزية على أسس صحيحة، عبر بعثة أممية موجودة في طرابلس، حدث ما لم يكن في الحسبان، في 4 إبريل/نيسان 2019، أمر الجنرال خليفة حفتر قواته بالتحرّك في اتجاه طرابلس، قائلا في تسجيل صوتي "حان موعدنا مع الفتح العظيم"، وأطلق على عمليته اسم "تحرير طرابلس"، ضارباً عرض الحائط بكل القرارات الدولية التي تعترف بحكومة الوفاق ومؤسساتها.
اشتعل فتيل الحرب والاقتتال الداخلي في ليبيا، ومضى ما يزيد على الشهر، والمعارك بين كرٍّ وفرّ، وبدأت الحرب تأخذ شكلاً مناطقياً وقبلياً. هل سيتحول "الفتح العظيم" في ليبيا حربا مفتوحة على نسق "عاصفة الحزم" في اليمن؟ وهل سيلقى الشعب الليبي، بعد ما قدمه من تضحياتٍ في سبيل حريته، وكرامته، مصير الشعب اليمني؟ أسئلة كثيرة حائرة، على الشعوب الثائرة أن تجد إجاباتها الصحيحة، وهي تدفع أثمانا غالية من دماء أبنائها وحريتها وكرامتها.
2FABA6BB-F989-4199-859B-0E524E7841C7
عادل سليمان

كاتب وباحث أكاديمي مصري في الشؤون الاستراتيچية والنظم العسكرية. لواء ركن متقاعد، رئيس منتدى الحوار الاستراتيجى لدراسات الدفاع والعلاقات المدنية - العسكرية.