في الحاجة إلى سوبرمان عربي

في الحاجة إلى سوبرمان عربي

09 مايو 2019
+ الخط -
لم أتبيَّن إلاَّ أخيرا أن لا علاقة للراهن العربي، في كثير من تجلياته، بما يجري فعلاً على الأرض داخل المجتمعات العربية. تَبَيَّنْت ذلك فجأة، وتأكدت أن أشكال الصراع والحروب التي تملأ عالمنا تشير إلى أحداث مُتَخَيَّلَة ومرسومة بعناية. وأن حلم التغيير الذي تغنَّت به أجيال ما بعد الاستقلال، في أغلب البلدان العربية، تحوَّل اليوم إلى وَهْمٍ كبير. بدا هذا الأمر واضحاً في مختلف صور التراجعات والانكفاءات التي عَمَّت اليوم مختلف الأقطار العربية. ولم يكن بإمكان أحد أن يتصوَّر، في نهاية القرن الماضي، أن كل الطموحات العربية ستنكسر بهذه الصورة. ما يجري اليوم في مجموع البلدان العربية ردود فعل سريعة، تعكس في كثير من أوجُهِها، بدايات تداعي أنظمة عربية كثيرة. وهناك مظاهر كثيرة مما نحن بصدده، تشخِّصُها بقوة صور التدخل التي أصبحت تمارسها القِوَى الإقليمية والدولية في أغلب البلدان العربية، بما فيها التي تعتقد أن رياح التغيير العاتية لم تشملها، وأنها تنخرط في وقف المد الثوري ومحاصرته انتقاماً مما حصل، إذ تمارس عمليات تدخل سافر في بلدان الثورات، لعلها تفلح في بناء ما يساعدها على الاستمرار والنجاة. يحمل المشهد السياسي العربي، في الأشهر الأخيرة، علامات جديدة كاشفة لمظاهر أخرى من الانحطاط السياسي. دعنا من الإعلام الذي يهلل ويسجل الانتصارات التي لم يعد يصدقها حتى الذين يكتبونها، أو ينطقون بها. فقد اتضحت الصورة، وأسقطت الموجة الثانية من حراك الشارع في السودان والجزائر الساقطين من الطغاة، ولم تسقطهم. وتضعنا الأوضاع في اليمن وليبيا وسورية أمام كوارث جديدة، فقد أصبح مؤكدا اليوم أن سورية سقطت وعلى رأسها الأسد. وبدأ المحتلون الجُدُد يرتبون عمليات استرجاع التعويض المناسب للخدمات التي أسدوها لنظام هَجَّر شعبه، ودَكَّ عمارته.
لا يسعف منطق التحليل التاريخي والعقلاني للمسارات العربية، في المشرق وفي المغرب وفي الخليج، بتعقُّل كل ما جرى ويجري في السنوات الأخيرة وفهمه. وإذا كان الاندحار الكبير هو 
التعبير المناسب لأحوالنا العامة، فإنه يمكن أن نتصوَّر أن عملاً روائياً كبيراً، هو الذي يمكن أن يستوعب مظاهر العنف، وصور التناقض والصراع الجارية في البلدان العربية. وقد وجدت في هذا التصور ما جعلني أقترب قليلاً من اللحظات الدرامية الحاصلة هنا وهناك، صراعات الإخوة في الخليج واليمن وليبيا، وكذا صراعات الإخوة الفلسطينيين، وبداية انسداد الآفاق في السودان والجزائر.
أصبحت متأكداً أنني أمام عمل روائي كبير، أتابع فصوله من الداخل، أُعَايِن الدَّعَاوَى الغريبة الرامية إلى استعادة دولة الخلافة. وبجوار ذلك، أتابع امتلاء شوارع الخرطوم والجزائر بآلاف الشباب الذين يحملون شارات وشعارات تطالب بإطاحة الأنظمة الراعية للاستبداد والفساد، وهي الأنظمة التي أصبحت قادرةً على أن يكون لها في قلب الميادين ممثلون يخلطون الأوراق والشعارات، ولا يتردّدون في إعلان مواقف من أنفسهم، فيتحولوا إلى قادةٍ لثورة جاءت في الأصل لتنحيتهم، فقلت، في نفسي: نحن أمام عمل روائي مع تفاصيل ملحمية وأخرى درامية، وحكايات جانبية عديدة مسكوت عنها.
تتفاعل في الرواية أحداثٌ يصعب تصديقها. يُعَدِّد الجميع الدَّعَاوَى التي تربط فشل العرب في التنوير والنهوض وبناء الإصلاح الديمقراطي بالمؤامرات. ولعل أجمل ما في هذه الرواية غياب البطولة والبطل الأكبر، فليس هناك بطل يُحْتَذى. اختفت البطولات والأحلام، اختفى الكلام عن الكرامة والإنسان والتنمية، كما اختفى التضامن والتحرير والتحرُّر والتاريخ والمستقبل. نتحدث عن ضياع فلسطين وفشل التنظيمات الإقليمية العربية وسقوط جامعة الدول العربية، وكذا تحول مؤتمراتها إلى مواسم بدون طَعْم، مواسم ببياناتٍ لا يهمها أوضاع الشعوب العربية في سورية واليمن وليبيا، ولا تُعْنَى بالشباب المتظاهر في كل من السودان والجزائر. لا يهمها الحاضر، كما لا يهمها المستقبل.
تتواصل داخل الرواية مختلف أشكال الهوان، ومختلف أشكال التراجع، وتفيض الوسائط 
الاجتماعية بالبلاهات والحماقات، وتنبئ السردية العربية بأن دروب الأمل والفرج موصدةٌ، فنحس باختناقٍ كثير. ولم يبق لمواجهة كل ما ذكرنا إلا أن نتطلَّع إلى ظهور سوبرمان، بروز قُوَّة رهيبة وخارقة وقادرة على صناعة الأمل والحلم مجدَّداً... قوة تُمَكِّنُنَا من تحطيم وضعٍ ترهَّل، وأصبح عنواناً لأزمة عامة، تحطيمه بالضربة القاضية. لا علاقة لسوبرمان المأمول هنا لا بالسطوة الأميركية، ولا بمجابهة النازية في قلب ديارها، كما حصل في أربعينيات القرن الماضي، حيث تَمَّ بعث السوبرمان لمواجهة الطغاة. سوبرمان يُوقِف الاستهانة التي يبديها القادة العرب بمواثيق العمل المؤسسي الإقليمي والقومي، ويُوقِف زلازل الصراع الْبَيْنِي الفلسطيني، ويُشْعِل مجدَّداً براكين الغضب ضد الاحتلال، وضد مخطَّطات الاستيطان وغطرسة الصهاينة وعودة الاستعمار، فمتى يَلِجُ سوبرمان فضاءات الرواية ليواجه الطغاة، وينشر الأمل في غد عربي أفضل؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".