الليبرالية السياسية في الثورات العربية (2 ـ 2)

الليبرالية السياسية في الثورات العربية (2 ـ 2)

09 مايو 2019

طفل سوري خلال مظاهرة ضد النظام في إدلب (15/3/2019/الأناضول)

+ الخط -
المفاهيم والقيم الإنسانية كونية الطابع، إذ تجتاز الأقاليم والدول والقارات في أقلمات شتى، ولا تحدّها أو توقفها الحدود الجغرافية وسواها، لذلك أثارت، وما تزال، أقلمات الليبرالية السياسية نقاشاً مهما في عالم الثورات العربية، فضلاً عن امتلاكها جذوراً تاريخية في التربة العربية، تعود إلى ما قبل القرن التاسع عشر، ومروراً بمختلف فتراته، ووصولاً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي أطلق عليها ألبرت حوراني "العصر الليبرالي"، بوصفه العصر الذي شهد نقاشات وتساؤلات وجدلا بشأن مبادئ الليبرالية والديمقراطية، وأظهر وقوف أصحاب النزعات القومية واليسارية والإسلامية ضدها في ذلك العصر.
وبعكس ما اعتبر بعضهم أن الأيديولوجيا القومية التي سيطرت في المشرق العربي، خلال كامل فترة النصف الأول من القرن العشرين، كانت تمثّل النقيض الأساسي لقيم الليبرالية ومبادئها، فإن نظرة فاحصة تظهر أن أفكار الليبرالية، خلال تلك الفترة، وخصوصاً بداياتها، كانت تشكل جزءاً من الخطابات التحرّرية والقومية التي كانت تنادي بالاستقلال عن المستعمر، وبناء دولة المستقبل بالاستناد إلى نماذجها الأوروبية، أي نموذج الدولة الليبرالية الديمقراطية، لكن الأمر اختلف في ثلاثينيات القرن العشرين المنصرم وأربعينياته من صعود النزعات القومية الراديكالية التي كانت تنادي بالوحدة العربية والتحرّر من الاستعمار الغربي.
وبعد وصول العسكر إلى السلطة بانقلابات دموية في عدد من البلدان العربية، ساد صمت ليبرالي، حيث تردّدت قوى وشخصيات عديدة في وصف نفسها بالليبرالية، كون الليبرالية باتت تسم صاحبها، في ذلك الوقت، بالولاء للغرب الأوروبي والأميركي، لكن ذلك لم يمنع جمهورا من عامة الناس من الوقوف بوجه نظم الاستبداد وفق نهج ليبرالي، يستند إلى الحريات والحقوق الفردية، وحكم القانون، والتعددية السياسية، وسواها، وهو ما تجلى واضحا في مطالب الثورات العربية.
ويجد الناظر في البدايات الليبرالية عربياً، أن المفكرين والمثقفين العرب، وليس البرجوازيون 
وقواهم، هم من تعرّفوا على الليبرالية بوصفها نموذجاً عصرياً حديثاً، يرى في الغرب صانع التاريخ ومثال التقدّم، فما دام تاريخ العالم قد عرف انتقالاً من الشرق نحو الغرب، على النحو الذي صوّره الفيلسوف "هيغل"، باعتبار أن أوروبا تمثّل، بالنسبة إليه، نهاية التاريخ على نحو مطلق، فقد تصوّر المفكرون المصريون والسوريون وسواهم أن بالإمكان اللحاق بركب التقدم الغربي، كي تركن بلدانهم بدورها إلى نهاية التاريخ، فكانت ليبراليتهم واسعةً وفضفاضةً، تتعامل مع المفاهيم الليبرالية، كالحرية والدستور وسواهما، كحاجة طبيعية، أو مجتمعية، للخلاص من التخلف والجمود والانحطاط، فركزوا على الحرية بوصفها مطلباً وعلى الدستور كذلك، ولم يتمثلوا الليبرالية نهجا نظريا، بل إن عبد الله العروي يرى أنهم استلهموا الليبرالية، من جهة أولى، "كشعار ولم يتجاوزا الشعار إلى التمثل الفلسفي، ومن جهة ثانية، تأثروا بها طويلاً إلى حد أنهم أوّلوا مذاهب أخرى تأويلاً ليبرالياً.
ويمكن القول إن ليبرالية التنويريين والنهضويين الأوائل كانت تستدعيها حاجات مجتمع يتطلع إلى الخروج من عصر طويل من الانحطاط والتأخر التاريخي، المطبوع بالاستبداد والجهل والخرافة والتزمت وإلغاء الفرد.. إلخ، إلا أنها كانت ليبراليةً واسعةً فضفاضة، تعاملت مع مفهوم الحرية باعتباره دعوة، وحاجة، وضرورة كلية، تستدعيها كلية واقع اجتماعي ثقافي فقدها منذ زمن طويل. ولذا، كانت الحرية برنامجاً مطلبياً، وليست منهجاً نظرياً. بمعنى أن التنويريين والنهضويين تصوّرا أن المجتمعات العربية والإسلامية كانت في حاجة إلى نشر دعوة الحرية أكثر مما كانت في حاجة إلى فهم مفهومها وتحليله.
وعليه، لا يعد تحول الحرية إلى شعار يخترق الخطاب النهضوي الليبرالي العربي نقلاً خارجياً غريباً عن الواقع العربي، بل أقلمة له، حيث كان الليبرالي العربي أكثر حماسةً للحرية من الليبرالي الأوروبي الذي حقق مجتمعه كثيرا من مكتسباتها. وعلى هذا، كانت خصوصية الليبرالي العربي تتجسد في أنه يطلب الحرية باندفاعٍ لم يحس به رصيفه الأوروبي، والسبب  حالة مجتمعه الذي لم تتحقق فيه أيٌّ من صور الحرية، إضافة إلى أن الليبرالية في السياق النهضوي العربي، حسبما درسها عبد الله العروي، هي تجسيد موضوعي عقلاني لمستوى التطور التاريخي الذي حققه المجتمع، ولمستوى وعيه التاريخي بهذا التطور، أو بمعنى أدق هي استجابة لما لم يحققه المجتمع بعد.
وقد انفتح المشروع النهضوي العربي على فسحاتٍ عديدة في الفكر وفي الواقع اليومي والمعيش. وتوضّح أفكار وأطروحات وحيوات دعاة التنوير والنهضة ورموزهما بعض مكونات الأحداث والوقائع التي حصلت في عصرهم، حيث كانت تمثّل أفكار الفئات الوسطى الصاعدة في البلدان العربية وطموحاتها، بوصفها المؤسس والمعبّر عن وعيها السياسي والفكري. ولكن الأفكار التي سادت، في ذلك الوقت، حملتها نخبة مجتمعية، للأسف، كانت منفصلة عن الكتلة الشعبية الواسعة في بلادها، سواء في مصر أم سورية أم في تونس والمغرب وسواها، فثمّة هوة واسعة وعميقة كانت تفصل النخب الفكرية والثقافية عن عامة الناس.
ولم تكن الليبرالية سوى مذهب اجتماعي أكثر من كونها نظرة فلسفية، فحضرت في الخطاب الليبرالي من خلال التأكيد والتشديد على أولوية الحرية، بوصفها "غرض الإنسان في الحياة" حسبما يقول أحمد لطفي السيد الذي اعتبرها باعثة التاريخ، وأفضل دواء لكل نقص أو تخلف أو فوات.
سؤال الحرية
إذا كان التنويريون والنهضويون دعاة مبادئ ومفاهيم ليبرالية مثل الحرية والدستور وسواهما، 
إلا أنهم تعاملوا مع الحرية بوصفها حقاً طبيعياً، حيث رأى لطفي السيد أن "الحرية الشخصية، بل والحرية العامة، ليستا لعبة أو ميزة.. بل هما حقان طبيعيان للأفراد وللأمة، لا تقرّ بهما حكومة عادلة تحكم لا لمصلحتها ولكن لمصلحة المحكومين". ثم جرت عملية مساواة بين الحرية والحياة في مقولة "وما الحرية إلا قرينة الحياة، وهبة من الله"، و"هي حق الفرد من يوم ولادته، وقد ولد الناس أحراراً. وهي حق المجموع من يوم وجوده"، أي أنها ترتقي إلى مرتبة الحق والوجود للفرد والجماعة.
وأكد أحمد لطفي السيد على أن الحرية مع طبع الإنسان ومعنى إنسانيته ووجوده: "خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية، فحريتنا هي نحن.. هي ذاتنا ومقوم ذاتنا، هي معنى أن الإنسان إنسان، وما حريتنا إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية". وتتولد عن حرية الإنسان الفرد حرية الفكر والقول والعمل، مع الأخذ بالاعتبار أن أول أسباب التقدم في الأمم هي الحرية الاجتماعية والسياسية والدينية.
واعتبر عبد الرحمن الكواكبي "أن البلية فَقْدُنَا الحرية.. ومن فروع الحرية تساوي الحقوق، ومحاسبة الحكام.. ومنها حرية الخطابة والمطبوعات وحرية المباحثات العلمية، ومنها العدالة.. والأمن على الدين والأرواح، والأمن على الشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره". وحاول أقلمة مفهوم الحرية في القول "إنّ الحرية هي روح الدين"، سعياً منه في أرضنة هذا المفهوم الإنساني في التربة العربية، وعمل كل ما يلزم لتهيئة غرسه فيها.
وميّز بعض التنويريين العرب ما بين مختلف الحريات، مع مساواتهم بين الحريتين، الشخصية والمدنية، من خلال "القدرة الفعلية على العمل والترك.. وتعريفها أن تعمل ما تشاء بشرط ألا تضر الغير". أما الحرية السياسية عند الكواكبي "فهي أن يشترك كل فرد في حكومة بلاده اشتراكاً تاماً، وهذا ما نسميه بسلطة الأمة"، مع اعتبارٍ يتجسّد في أن الحرية السياسية هي كفيلة الحرية الشخصية.
ويمكن القول إن مفهوم مفكري عصر النهضة العربي عن الحرية لم يخرج عن مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر، من جهة أن الحرية كانت تعني بالنسبة إليهم غياب رقابة الدولة غير الضرورية، واعتبار أن وظائف الدولة تتحدّد في الحفاظ على الأمن والعدل والدفاع عن الوطن ضد العدوان، ويحق لها القيام بهذه الوظائف من دون التدخل في حقوق الفرد، ومن دون العبث بحرية القضاء، أو بحرية الرأي والقول والكتابة والنشر، أو بحرية تأليف الأحزاب. كما لم يخرج فكر النهضة عن إطار دعوات الإصلاح، واعتبار الحرية قاعدته، من منطلق تحقق حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل في حدود القوانين المعقولة الضرورية، مع الإدراك التام لمختلف أشكال الحرية المدنية التي رُبطت بالحقوق الأصيلة، أو حقوق الكافة أو الجماعة، وحق المساواة، ثم حق الملكية. وتتجلى "الحقوق الأصيلة" في "حق الحرية الشخصية بمعناها العام: حرية الفكر والاعتقاد، حرية الكلام والكتابة، حرية التربية والتعليم في حدود لا تضر الغير". في حين أن حق المساواة يتجسّد في أن يكون الناس في المعاملة سواء أمام القانون، فليس للشارع أن يميز طائفة على الأخرى في المغانم أو في المغارم التي تقتضيها الجمعية.
مفهوم الدولة
عمل دعاة الليبرالية على بلورة مفهوم الحرية، بوصفها أصل وجود الإنسان ومبرّر تكليفه. وقد ارتفع صوت دعاة الليبرالية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، تزامناً مع بداية التفكير السياسي في بناء الدولة الحديثة، والنضال من أجل الحصول على الاستقلال. وكان عماد الدولة الحديثة، وفق تصورات الليبراليين العرب، قائما على الدستور، بوصفه الميثاق التعاقدي الناظم لعلاقة الحاكم بالمحكوم، حسبما فهمه عبد الرحمن الكواكبي الذي اجترح تصوراً خاصاً لمفهوم الدولة، وجد أقلمتها في الحكومة، وكان مسعاه لا 
ينفصل عن مسعى أغلب رموز الليبرالية العربية، حيث استطاع، في أوائل القرن العشرين، أن يلتقط الفكرة الدستورية، بوصفها الحل الذيٍ لا مفر منه للخلاص من وباء الاستبداد المستحكم، وبيّن من خلال كتابه "طبائع الاستبداد" أسباب هذا الداء وصفاته وتمظهراته.
واعتبر الكواكبي أن "شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين"، وأن جوهر فكرة بناء الدولة يكمن في العلاقة ما بين الحاكم والمحكومين، معرّفاً الاستبداد أنه "الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم"، ثم راح ينظر في المباحث المتعلقة به، فيعدّدها ويشرحها، ويطرح عليها الأسئلة سبل الخلاص. وتساءل، في هذا المجال، عن الأمة أو الشعب، وعن الروابط التي تجمع بين مكونات الأمة، وماهية الروابط المتعلقة بالدين أو الجنس أو اللغة والوطن والحقوق المشتركة والجامعة السياسية الاختيارية. ونظر إلى الحكومة بالتساؤل عمّا إذا كانت سلطة امتلاك فرد لجمع، أم وكالة تقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شؤونها المشتركة العمومية، ثم راح يبحث في ماهية الحقوق العمومية، وعما إذا كانت حقوق آحاد الملوك، أم حقوق جمع الأمم. وكذلك نظر في معنى التساوي في الحقوق، ومنها الحقوق الشخصية، وفي نوعية الحكومة ووظائفها، حيث ذكر عدداً من هذه الوظائف، مثل حفظ الأمن العام وحفظ السلطة في القانون، وتأمين العدالة القضائية، وحفظ الدين والآداب، وتعيين الأعمال بقوانين. ولم ينس الكواكبي في البحث عن تعريف القانون وقوته، وضرورة التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم.
وفي المنحى نفسه، ذهب أحمد لطفي السيد في تصوره لواجبات الحكومة الثلاثة التي حددها في البوليس، وإقامة العدل وحماية البلاد. واعتبر أن كل ما يخرج من هذه الدائرة لا يحل لها المداخلة فيه. ويردّ عبد الإله بلقزيز هذا الحصر "إلى نطاق السلطة المسموح بها للدولة إلى مبدأ نظريّ مجرد يقول بالحرية فحسب، بل يقوم على الحاجة إليه دليل من الواقع ومن التجربة التاريخية". ولذلك نجد أن السيد أخذ يجادل بأن التجربة والأمثلة اليومية أثبتت أن الحكومة في كل أمة إذا ما وليت عملاً خارجاً عن دائرة واجباتها الثلاث التي ذكرها أساءت فيه تصرفاً، وفشلت نتائجه.
وتمحورت الأقلمة العربية لـ"الليبرالية" على تعزيز الفكرة الدستورية، وبنائها في الفكر السياسي العربي، بوصفها فكرة جديدة عليه، وحاجة له، أملتها ضرورات المجتمع في الحداثة والتقدم. وكان لافتاً أن يترجم، أو بالأحرى يُعرّب، رفاعة الطهطاوي، الدستور الفرنسي إلى اللغة العربية في لحظة مبكرة، وذات دلالات معبرة، إذ لم يكتف بترجمة دستور فرنسا، وإنما أبدى إعجابه الشديد بالمواد التي يتضمنها عن الحرية والديمقراطية، وخصوصا المادة الأولى فيه التي تنص على مساواة الجميع أمام القانون، ولم يخف إنبهاره عندما وجد أن تلك المساواة، تصل إلى حدّ أن الدعوة القضائية (الشرعية) يمكن أن تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره من الناس، واعتبرها دلالةً على وصول العدل عند الفرنسيين إلى درجة عالية.
غير أن لطفي السيد ركز على أهمية الدستور في الدولة، كي تكون أجهزتها مسؤولة وتخضع للمساءلة والمحاسبة، ويقول في هذا المجال: "طلبنا الدستور ونطلبه لتكون الوزارة مسؤولة عن تصرفاتها، مسؤولية ذات أثر فعلي أمام المجلس لتكون الأمة في أمن على حقوقها وحريتها، فلا ينفى أحد إلى السودان من الليمان أو من غير الليمان إلا بحكم قضائي بالأوضاع القانونية"، أي أن السيد كان يريد دولة القانون، كي يفصل القانون ويحكم بين الجميع، وخصوصاً أجهزة الدولة، مهما كانت مستوياتها التي تتقيد بالقانون وتحترم الحريات، ذلك أن الدستور هو ضمانة الحريات ومقيدها، وهو الفاصل بين السلطات.
واجترح لطفي السيد مفهوم سلطة الأمة بالتقابل مع سلطة الدولة، بوصفه تقليد الأمم المتمدنة، ورفض أن يكون في مصر حكومة تتمتع بشدة الحكومة المستبدة وعدل الحكومة النيابية، والحل في نظره هو الدستور الذي لا يتخذ كزينة في الحياة، ولكن مرقاة للتقدم وأماناً من الاستبداد. وبالتالي، كانت فكرة المستبد العادل التي روّجها مفكرون إصلاحيون عرب عديدون مرفوضة بالنسبة إليه. وأفضل ضمان من الوقوع الاستبداد هو الدستور، بوصفه قرينة على الحريات المضمونة التي تقرّ بها الدولة أو الحكومة للمواطنين، كي يكون واجبها حماية حرياتهم وأمنهم وممتلكاتهم. وتلتقي الدعوة إلى الدستور مع الدعوة إلى الحرية، إذ لا يمكن أن يسود الدستور إلا في مجتمع من الأحرار، وليس في مجتمعٍ تنتفي فيه الحريات. وعليه، تؤسس الحرية السياسية الدستور وتتأسس به. وكان هدف ذلك كله الخلاص من نظام الاستبداد، المقيم في التربة العربية.
أقلمات ليبرالية
أعادت الثورات العربية مفهوم الدولة إلى النقاش من جديد، حيث طرحت تساؤلاتٍ، طاولت 
الأسباب التي جعلت مفهوم الدولة مضمراً في الوعي العربي المعاصر، وأفضى إلى نتائج عكسية في نمط ولاء الناس، حتى بات عصياً استقرارها في الوعي الجماعي، بسبب ضعف أقلماتها النظرية، وفقر خبرتها في التجربة التاريخية، حيث لم تتأرضن الدولة وعاءً مشتركا، وحاضنا للجميع، في المخيال الجماعي لمختلف الجماعات العربية.
وعلى الرغم من تعرّف المفكرين العرب الأوائل على النموذج الحديث للدولة في البلدان الأوروبية، إلا أنهم لم يؤقلموا مركبات هذا المفهوم في المجال التداولي العربي، فعالجوا قضايا تلامس مسألة الدولة، أو تدور حولها، حيث تحدث رفاعة الطهطاوي عن دولةٍ تنهض على القوة الحاكمة والقوى المحكومة، بوصفهما ركنين أساسيين للدولة، والدستور هو الناظم للعلاقة بينهما، فيما راح الأفغاني ومحمد عبده وسواهما يتناولون عناصر الدولة ووظائفها من دون تحديد دقيق لمفهومها، وبقيت مقارباتهم محدودة وضعيفة، وبعيدة عن الأقلمة النظرية.
ولم يتمكّن نموذج "الدولة الوطنية" في البلدان العربية، من إيجاد سلطةٍ منظمةٍ للمجتمع، بل أنتج سلطة متسلطة ومسيطرة على المجتمع والأفراد، فغاب التفاعل الإيجابي السلمي بين الفئات المدنية والأهلية ومختلف المكونات والقوى الاجتماعية، وبقي المجتمع بحاجة للدولة المنشودة، لذلك ينصرف التفكير إلى العلاقة السياسية التأسيسية في النظام السياسي التي تختصر، في مرحلة الثورات العربية، في علاقة المواطنة، حيث تجد المواطنة متحققها في المواطنين، بوصفهم أفراداً أحرارا، متساوين أمام القانون في حقوقهم السياسية، ومتكافئين في أداء ما عليهم من واجباتٍ للدولة. وبالتالي، لا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية، ومن داخل منظومة الفكر السياسي الليبرالي الحديث، إلا مع التسليم بمركزية الفرد في هذه الدولة.
وكان مسعى المفكرين النهضويين الليبراليين لا ينفكّ يصّب في محاولة أقلمة بعض الأفكار الليبرالية، ولا سيما الحرية، في عمق المجتمعات العربية والتاريخ الإسلامي، مع عدم القطع، كليبراليين عرب، مع تصوّرات المفكرين الليبراليين الأوروبيين، وخصوصاً جون ستيوارت ميل الذي نهل عدد منهم من كتاباته وأفكاره، مع أن دعوة ستيوارت ميل إلى الحرية كانت محكومة تاريخياً وموضوعياً بعصر النهضة الأوروبية، بينما توجب على الليبراليين العرب البحث عن متحقّق له في تفاصيل التاريخ الإسلامي القديم وتضاريسه، فحاولوا الاستعانة بمواقف أبو حنيفة وأقواله، بوصفه بطل الحرية والتسامح، وأبو ذر بوصفه بطل الديمقراطية.. إلخ.
وكانت أقلمة مفاهيم الليبرالية توظف لديهم توظيفاتٍ شتى، فاستخدموها سلاحاً ضد الخصوم الداخليين من خلال المشترك الثقافي الإسلامي، وحاولوا إثبات أن الدعوة إلى الحرية من صميم الإسلام، بتأكيدهم مقولة إن الناس يولدون أحراراً، وإن جميع الذين يناهضون الحرية من المسلمين ليسوا من الإسلام الحقيقي أو الإسلام الأصيل، الأمر الذي يشي أن الليبرالي العربي كان يضمر طموحاً وظيفياً للخطاب، يتجسّد في تطلعه إلى أقلمة منظومته 
الفكرية والسياسية، وجعلها تدخل في نسيج الثقافة المحلية وبنيتها، بهدف أرضنتها وأقلمتها.
وبدأت أقلمة مفهوم الحرية عربياً بالفرد، بوصفه ذاتاً عاقلة حرة مستقلة، أي بوصف هذا الفرد قادراً على الولاية على نفسه، وذلك هو أسّ المشروع الديمقراطي في الغرب حيث الأمم لا تتقدم إلا بتقدم أفرادها، والحكومات الحرة لا تقوم إلا بشرائع عادلة تسنها المجالس النيابية، لا بأوامر يصدرها الملوك والسلاطين. وأول حقوق الإنسان هي الحرية: حرية الفكر، وحرية القول، وحرية العمل، ولعل من أهم أسباب التقدّم في الأمم يتجسّد في صون وممارسة الحريات الاجتماعية والسياسية والدينية، ومن أكبر دعائم الحكومات الحرة قانون يكفل لشعوبها حقوقهم الأولية، ويوجب عليهم الدفاع عنها، حين يحاول المتسلطون من الحكام انتهاكها أو قتلها.
والواقع هو أن الليبراليين التنويريين تعاملوا مع الليبرالية، ليس بوصفها مجرد فكرة، بل كمخرج للوطن، ومنقذ له، يأخذه إلى أرضنة مفاهيم العقل والعلم والتقدّم والحرية في التربة العربية، لكنهم لم يخرجوا عن خانة التوجه الانتقائي، وكانوا يواجهون لحظات وأعاصير زمن محمَّلٍ باختيارات عديدة في الفكر، وتراكمات تأخر وفوات موسومة بالجمود والتقليد، كما واجهوا، في الوقت نفسه، تيارات الفكر الحديث بطابعها المركب، لكنهم عجزوا، في النهاية، مثل سائر أضرابهم النهضويين عن تمثل معطيات هذا الفكر في صيغ سيرورته الفكرية المتحولة والمعقدة، فلجأوا إلى الانتقاء والتوفيق والتلفيق، ودخلوا جملةً من المعارك الجزئية، المرتبطة بقضايا مفصولة عن حواملها الفكرية وسياقاتها التاريخية.
والحاصل أن الأقلمة الليبرالية تمحورت، في العصر الليبرالي العربي، حول مفاهيم الحريات، خصوصا فيما يتصل بالفرد وحقوقه في التعبير والرأي، وفي الدستور والحكومة والدولة وسواها. ومع تطور المجتمعات تحولت الليبرالية، سيما في جانبها السياسي، إلى التركيز على حماية الحريات والحقوق بواسطة ضمانات دستورية متنوعة، وأقلمت نفسها أوروبياً في الانتخابات الديمقراطية التمثيلية، كي تستقر على حكم الأغلبية في ظل وجود ضمانات لحقوق واضحة للأقليات الاجتماعية والسياسية، لكن مع استمرار نشوب الثورات وحركات الاحتجاج العالمي، حاولت الليبرالية إيجاد نوعٍ من التوازن في المجتمعات ما بين الفرد وحقوقه ودور الدولة، مع ضمان قدر من العدالة الاجتماعية، غير أن الثورات المضادة أفرزت النيوليبرالية التي حاولت الانتقاص من مكانة العدالة الاقتصاية والسياسية وحقوق الإنسان التي حققتها الثورات وحركات الاحتجاجية على مختلف الصعد.
وجاءت الثورات العربية، كي تشكل رداً خلاصياً على نظم الاستبداد، فرفعت شعارات ومطالب ليبرالية، على الرغم من أن حركات الاحتجاج العربية لم تنطلق من تربة ليبرالية، أي أن مطالبها وشعاراتها كانت ليبرالية الطابع، من دون أن تحسب على الليبرالية، وتجسد ذلك في أقلمات جديدة لمفاهيم الليبرالية، من خلال مطالبتها بالحريات السياسية، وحرية التعبير والرأي، مع مطالبتها بالعدالة الاجتماعية والمواطنة والمساواة أمام القانون وسوى ذلك. ولعل من اللافت أن تتمحور أقلمة الليبرالية السياسية في الثورات العربية حول مفهومي الحرية والعدالة، بما يعني الانتقال بالليبرالية السياسية من الاهتمام بالإنسان، بوصفه ذلك الكائن الفرد، إلى الإنسان، بوصفه كائناً أخلاقياً اجتماعياً، لا شيء يعلو لديه على قضايا الحرية والعدالة.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".