بحثاً عن "ماكيافيلية" عربية

بحثاً عن "ماكيافيلية" عربية

08 مايو 2019
+ الخط -
يتحدث علم السياسة عن الماكيافيلية باعتبارها فن المكر والدهاء والحكمة، وأيضا المهارة والشجاعة والقدرة على الوصول إلى الهدف. بعبارة أخرى "السياسي الماكيافيلي" هو الذي يبدو لنا كائنا باردا ومتأنيا وحذرا، لكنه قادر على الانتقام والثأر في الوقت المناسب. تصنف "الماكيافيلية"، في عبارة ثالثة، أنها طريقة مميزة للسلوك السياسي والاجتماعي الذي يلاحظ بشكل منهجي في بعض الذين هم، في العادة، أعضاء في نادي الطبقة السياسية التي تشكل مصدر السلطة والقرار. عمر هذه المفاهيم بضعة قرون، بدايتها مع بداية الحضور المؤثر للفيلسوف الإيطالي، نيكولاس ماكيافيلي، في القرن السادس عشر وبعده. 
واعتبر مؤرخون وباحثون عديدون كتاب "الأمير" الذي بشر بهذه المفاهيم دليلا للحكام المستبدين والطغاة، في حين أن مفكرين آخرين، مثل سبينوزا وروسو، قالوا إن الكتاب إدانة ذكية لمسلك الاستبداد والطغيان، وللطرق التي يستخدمها رجال الطبقة السياسية للسيطرة وممارسة النفوذ، ووصف حيلهم المستخدمة في إدامة سيطرتهم على مواطنيهم، والهدف هو تعريف المواطن العادي بذلك كله، ودفعه إلى المطالبة بحقوقه وحمايته من تجاوزات حكامه.
يخاطب ماكيافيلي مواطنه: "أود أن أريك طريق الجحيم حتى لا تبتعد عنه.. تعرّف عليه وراقبه"، يوضح لاحقا لصديق له أنه كان يقصد بطريق الجحيم النظام الذي ينشأ عن قراراتٍ سياسيةٍ شريرة، تقترفها مؤسسات فاسدة وحكام مستبدّون، منبها إلى ضرورة أن لا يترك المواطن مثل هذا النظام يفعل ما يريده، وإنما عليه أن يراقبه ويقتصّ منه متى استطاع!
يفضح ماكيافيلي الحكام الذين يعيشون على الأكاذيب والرشوة والفساد والقتل، يعطي مثالا السلالة الحاكمة في جمهورية فلورنسا آنذاك. وفي انتقاداته تلك، يبدو كأنه يريد أن يوصل إلى قارئه كيف تمرض الأنظمة الديمقراطية، وكيف يمكن علاجها، وكيف يمكن للمواطن أن يتجنّب أذى الحكام المستبدّين وظلمهم، محذرا من المخاطر التي تهدّد الحريات المدنية. وفي عصر مثل عصرنا، وفي عالمنا العربي المليء بالشرور والآثام، يبرز سؤال كبير: كيف يمكن الإفادة من ماكيافيلي في تشخيص وعلاج الظواهر المرضية المختلفة والحادة التي تقف بوجه إقامة أنظمة ديمقراطية حقيقية في ربوعنا؟
ليس الجواب سهلا، لأن الطبقة الحاكمة في أقطارنا العربية امتهنت السيطرة على الفضاء
الاجتماعي بأكمله، ولا تتيح للمواطن فرصة لعب دور فاعل فيه، إلا بالقدر الذي ترسمه هي له. ومع ذلك، تظل لبراغماتية ماكيافيلي إمكانية البروز هنا، يمكننا أن نستحضر عبارته المتطرّفة: "سيكون علينا عند الضرورة العمل ضد المثالية الزائفة، وضد قوانين المصادفات، وضد الاتجار بالدين". وهذا هو بالفعل ما يمكن أن ندعو إليه اليوم، ونروجه ونحرض عليه في الفضاء الاجتماعي الماثل، بقدر ما يمكننا ذلك.
هل هذه الدعوة ممكنة حقا؟ الجواب: نعم. لأن توفر مساحات في مواقع التواصل الاجتماعي وأدوات التكنولوجيا الحديثة، لا تصل إليها أيادي الحكام، يمكن أن يلعب الدور الحاسم في عملية التغيير الساعية إلى تأسيس أنظمة ديمقراطية حقيقية. وهذا لم يكن متوفرا في عهد ماكيافيلي، ولكن البداية تبقى صعبة وعسيرة، ولا تتطلب حراكا شعبيا مؤثرا وفاعلا وحسب، إنما حراكا للنخبة المثقفة أيضا، باعتبارها قائدة التغيير وأداته. وإذا كنا في العراق قد سعينا إلى إطلاق حراكات شعبية، وانتفاضات مطلبية، إلا أنها ظلت محدودة الأفق، وقصيرة النفس، وعاجزة عن أن تتطور إلى ما هو أبعد من أرنبة أنفها. ولم يكن ذلك ذنبها، إنما جاء نتيجة عوامل مختلفة، منها أن الأحزاب (الثورية) التي قادت التغيير خلال العقود التي سبقت الاحتلال لم تعد قادرةً على تطوير نفسها. وبقيت مستكينةً لاعتقادها الخاطئ أنها الجامعة لطاقات الشعب، والممثل الوحيد له، وأنها وحدها يجب أن تقود سواها، في حين يتطلب الحال التجرّد من الأوهام، والعمل على إزاحة "الحرس القديم" من واجهاتها، وإطلاق حراك ديمقراطي داخل تنظيماتها، وإعادة تقييم لدورها المطلوب الذي لا يستغني أبداً عن طاقات الآخرين. وفي الإطار الفكري، يتطلب الخروج من قوقعة الشعارات القديمة، والخروج من محبس النصوص المحنطة التي لم تعد تستوعب القضايا الراهنة، والنظر بعينين مفتوحتين نحو الحاضر والمستقبل على حد سواء.
يبقى السؤال الأهم: لماذا لا يبادر الشباب إلى إطلاق أحزاب وحركات جديدة، تؤسس منصاتها من دون خوف، وتحمل فكرها الخاص الذي يتجاوز السائد، ويسعى إلى الممكن، وعيونه على المستحيل من أجل تطويعه وجعله ممكناً؟
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"