انتخابات إسطنبول

انتخابات إسطنبول

08 مايو 2019
+ الخط -
كان الظن، بعد جلاء نتائج الانتخابات البلدية في تركيا، نهاية مارس/ آذار الماضي، أنها انفعالاتٌ غاضبةٌ، ستكون عابرةً، تلك التي بدت في كلام قياديين في حزب العدالة والتنمية، وفي مقدمتهم رئيس البلاد، أردوغان، بعد تبيّن خسارة الحزب رئاسة بلدية إسطنبول. ولكن فائضا من الأخبار لم يتوقف، طوال الأسابيع الخمسة الماضية، أوحى، (أو أكّد؟)، أن الأمر يتجاوز حالةً من النرفزة إلى ما قد يُحسب، عن حقٍّ، تعبيرا عن توطّن عقليةٍ في "العدالة والتنمية"، وقيادته، ترفض بديهية أن أمزجة الناس وميولاتها يحدُث أن تتغير، بل وتستنكر هذه العقلية أمرا كهذا، وترى أن حيازة الحزب رئاسة بلدية إسطنبول خمسة وعشرين عاما تعني أن هذه رئاسةٌ إلى الأبد. دلّ على هذا أن الأخبار الوافدة من العاصمة الاقتصادية لتركيا، ومهوى ملايين السياح والزائرين، كادت، باستثناء افتتاح واحدٍ من أكبر مطارات العالم فيها، لا تتعلق بغير طعن الحزب الذي يترأس تركيا منذ 17 عاما في عدم كسب مرشحه، بن علي يلدريم، رئاسة بلدية المدينة، وفي خطف حزب الشعب الجمهوري المعارض أغلبية مقاعد مجلس البلدية، ونيْل مرشحه، أكرم إمام أوغلو، رئاستها. وجرى الظن أن هذا الطعن محضُ إجراءٍ تقليدي، تأخذ به الأعرافُ الانتخابية المعهودة، كما هو قرار اللجنة العليا للانتخابات إعادة فرز أصوات المقترعين، غير أن الأمر لم يبدُ كذلك، بدلالة الكلام الكثير الذي راح يشكّك في أهلية هذه اللجنة في تنظيم عملية الاقتراع في إسطنبول (وحدها بالذات!). وفي الأثناء، ظلّ عجيبا أن الرئيس أردوغان بدا كأنه متفرغٌ لهذا الأمر، وظهر رئيسَ حزبٍ، ورئيسا سابقا لبلدية إسطنبول، فيما هو رئيسٌ للبلاد كلها، ولكل الأتراك وليس لمحازبيه فقط، وذلك من فرط ما جهر به من كلامٍ في المسألة، دلّ على أن شيئا مبيّتا يتم طبخه، من أجل "استرداد" رئاسة بلدية إسطنبول، وهو ما حسمَه إعلان اللجنة العليا للانتخابات، أول من أمس الاثنين، إعادة التصويت في إسطنبول الكبرى في 23 يونيو/ حزيران المقبل. 
تلك المقدمات، وكثيرٌ مثلها، تسوق إلى سوء الظن بالقرار المثير، والمستهجن، وحسبانِه قد خضع لتأثيرات جهاتٍ نافذةٍ في السلطة التي يمسكها حزب العدالة والتنمية. ولا يملك صاحب هذه الكلمات قرائن تؤكد زعمه هذا، كما كثيرون غيره، في تركيا وغيرها، معجبون بالرئيس أردوغان وآخرون غير محبيّن له، استقبلوا قرار إعادة الانتخابات في إسطنبول بسخطٍ وارتيابٍ ظاهريْن، غير أن سوء الظن من حسن الفطن. وهذا أردوغان يسوّغ الفطنة المرجّحة هنا، عندما يقول، يومين قبل القرار، إنه يفضل إعادة الانتخابات، لأنها ستتيح للجنة العليا تبرئة ساحتها. وليس خافيا ما يشتمل عليه هذا الكلام، ومن رئيس البلاد تحديدا، من مسّ بأداء أجهزة الدولة، وانتقاصٍ من قدرتها على تيسير أجواء نزيهةٍ لاقتراع عشرة ملايين مواطن في مدينةٍ كبرى، غير أن أردوغان لم يكترث بذلك، وقال إن مخالفاتٍ شابت الاقتراع، الأمر الذي أعاد إشهارَه، ساعاتٍ بعد قرار إعادة الانتخابات، لمّا قال، مغتبطا ربما، إن "فسادا منظّما" شاب عملية التصويت، وطالب رجال أعمالٍ انتقدوا القرار بأن يعرفوا مكانهم.
من موقع الإعجاب بأداء الرئيس أردوغان في بلده، وبما أنجزه لمواطنيه، ومن موقع إطراء التجربة المقدّرة لحزب العدالة والتنمية في تعزيز قيم الديمقراطية والاعتدال الإسلامي، ومن موقع التسليم بشرعية تعديلاتٍ دستوريةٍ صوّت لها الأتراك، أجهزت على موقع رئاسة الوزراء، وأعلت صلاحيات الرئيس ومكانته، ومن موقع المعتصم بضرورة أن تبقى تركيا، البلد المسلم الجار للأمة العربية، في منجاةٍ من تراجعاتٍ في مسار تقدّمها الاقتصادي الناجح، من هذه المطارح جميعها، يجوز القول إن حزب العدالة والتنمية خصمَ كثيرا من صورته، وهو يبتعد عن تحرّي مواطن الزلل والإخفاق في أدائه، وجعلته يخسر مقاعد ليست قليلةً في الانتخابات البلدية، المطبوعة بداهةً بما هو خدماتي ومعيشي، ويُؤْثر على ذلك سلوكا متوترا، ويفتعل أسبابا مضافةً للتأزيم مع المعارضة وأحزابها، عندما لا يحتمل خسارته رئاسة بلدية إسطنبول، ويتعامل مع الواقعة وكأنها نهاية النهايات، فيما هي محطةٌ موصولةٌ بمقدماتٍ لها نتائجُها الأدعى للاحترام. والمشهد الذي رأينا قد ينبئ بما قد لا يسرّ حزب العدالة والتنمية وقيادته، وقد تتدحرج تفاصيل فيه إلى ما هو غير مرضٍٍ، لنا نحن الذين نخصّ الحالة التركية الراهنة بتثمينٍ مستحق.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.