الإيرانيون لا يشربون النفط

الإيرانيون لا يشربون النفط

07 مايو 2019
+ الخط -
كان ذلك غداة انتصار الثورة الإيرانية قبل نحو أربعين عاماً، حين علت موجةٌ زائدةٌ من الحماسة الجماهيرية الهادرة في ساحات طهران، طالب فيها الحشد، المستشيط غضباً إزاء الموقف الأميركي المعادي للثورة، بضرورة قطع النفط عن الغرب عقاباً له، في استعادةٍ لواقعة قطع النفط العربي اليتيمة قبل نحو ست سنوات في حرب أكتوبر في العام 1973، فرد الإمام آية الله الخميني عليهم بالقول: نحن لا نشرب النفط، فماذا نصنع به إذن؟ 
حضرت هذه الحكاية الصغيرة إلى الذهن، وأملت نفسها عنوانا مناسبا، ربما، لهذه المطالعة السريعة، خصوصاً ونحن بعد في أول سجالٍ لا نهاية له، من المواقف والتعليقات والتخمينات والتساؤلات والسيناريوهات المتعلقة بخيارات إيران المتاحة، وردود فعلها المحتملة، إزاء تعرّض البلد الذي يقف اقتصاده على شفير هاويةٍ، لعقوباتٍ أميركيةٍ هي الأقسى في التاريخ المعاصر، إن لم نقل عقوبات كسر عظم وحصارٍ خانق.
منذ اعتمدت إدارة ترامب استراتيجية الضغوط القصوى لحمل طهران على تغيير سياساتها، وتوعدت على رؤوس الأشهاد بتصفير عداد ثالث أكبر بلد مصدّر للنفط، اتبع القادة الإيرانيون، في المقابل، سياسة التهوين والاستخفاف بتداعيات العقوبات من جهة أولى، والتلويح بردود فعل غير متوقعةٍ من جهة ثانية، فيما تمسّكوا، طوال الوقت، بمظاهر التجلد والندية والثقة بالنفس، وتصنّعوا القدرة على تجاوز المأزق، إلا أنهم تفوقوا على أنفسهم، كالعادة، في صرف التهديدات العنترية.
ومع أن تهديدات إيرانية كثيرة مفعمة بالمبالغات التقليدية لا تؤخذ على محمل الجد، وتُعتبر مجرد كلام فارغ للاستهلاك الداخلي، إلا أن السؤال الذي لم يبرح النقاش مطلقاً؛ ماذا في وسع طهران أن تفعل إذا تم منع تصدير نفطها، وجرى حرمانها من المصدر الرئيس لإيراداتها؟ هل ستعقد يديها خلف ظهرها من دون حراكٍ وتتفرّج؟ وكيف ستبدو عليه صورة الجمهورية الإسلامية الباذخة وقد انكسرت هيبتها؟ وعلى من تعوّل بعد اليوم، وقد انفض عنها الحلفاء المفترضون والشركاء التجاريون؟
بكلام آخر، هي ستلجأ إيران حقاً إلى استخدام الطلقة الأخيرة في البندقية، أو اتباع ما يعرف بالسياسة الانتحارية، ونعني بذلك إغلاق مضيق هرمز؟ وقبل ذلك هل الجمهورية الإسلامية قادرة على هذا الفعل الذي تتمنى إدارة ترامب حدوثه، وربما استدراج طهران إليه، لتسوّغ شن الحرب الكبيرة في ظروفٍ مثالية، وتبرير مشروعية هذا الخيار المفضل لدى صقور الإدارة التي أدرجت الحرس الثوري، بالأمس القريب، منظمة إرهابية، بل وصنّفت إيران ذاتها راعيةً للإرهاب ومصدرا للشر كله.
وهناك أسئلة أخرى مهمة، تتفرع من السؤال الأهم، مثل: هل تؤدي هذه العقوبات إلى مواجهة عسكرية مع إيران؟ وإذا وقعت فأين ستقع؟ ومع من؟ أو بواسطة أي من الوكلاء؟ وغيرها من الأسئلة التي تشغل بال المخططين العسكريين وقادة الأساطيل. غير أن الحقيقة الثابتة، وحدها، بين هذا الفيض المتلاطم من علامات الاستفهام، أن الأوراق الإيرانية في مواجهة القوة العظمى الوحيدة كسيحة، وإن خيرات طهران المتاحة نظرياً غير صالحة للاستخدام، بل وعدمية.
ولكن، إذا كان الإيرانيون غير قادرين على بيع نفطهم بالنتيجة، ولن يشربوه بطبيعة الحال، فما الذي يستطيعون فعله والحالة هذه، سوى التهديد بالانسحاب من الاتفاق النووي، وهو ما سيحرّر الأوروبيين من حرجهم وضعفهم، أو إلغاء عضويتهم في معاهدة حظر الانتشار النووي، وهو قرار ضررُه أكبر من نفعه، وحدّث ولا حرج عن عبثية إغلاق مضيق هرمز، وما سيجرّه من مضاعفات تمسّ مصالح الدول الكبرى، وما سيقدّمه من سانحةٍ تتحرّق لها الذئاب في إدارة منفلتة العقال.
ليس من شكٍّ في أن الإيرانيين الذين لا يشربون النفط، ولا يشربون الجعة أيضاً، وأن النظام الذي تمرّس في مقاومة العقوبات والتحايل عليها، ليس أمامه من أفضلياتٍ غير مواصلة سياسة الصبر الاستراتيجي، وتكتيك فن الانحناء إلى أن تمر العاصفة الهوجاء، لعل ذلك يحرم ترامب من تحقيق مكاسب ملموسة، قبل بدء سباق الانتخابات الرئاسية التي بدأت قبل موعدها، وربما يحرمه الفوز بولايةٍ ثانية، لا قدّرت الأقدار نجاحَه.

دلالات

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي