تحدّيات الزمن الانتقالي

تحدّيات الزمن الانتقالي

06 مايو 2019
+ الخط -
يُفترض في عمليّة الانتقال الديمقراطي أن تؤسّس لبداية عهد جديد في تاريخ المجتمعات، فهي مرحلة قطع عمليّ وتصوّري مع أركان نظام سياسيّ سابق، ثبت للمواطنين فشله في تأمين حياة جَمْعيّة مستقرّة، مترفّهة، تتوفّر فيها الحقوق، وتُوزّع فيها الواجبات والثروات بطريقة عادلة. والثابت أنّ سطوة النظام الدكتاتوري في عدّة بلدان عربية، وانخراط المشرفين عليه في دوّامات الفساد المالي والإداري، وتمسّكهم بمسارات الاستبداد المقنّن وغير المقنّن، أسهمت في قيام ثوراتٍ شعبيّة قوّضت الحكم الفردي أو الأسري السائد، وشرّعت لقيام واقع سياسي جديد، يعيد إلى المواطن دوره في صياغة القرار، وفي تشكيل مؤسّسات الدولة.
وأثبتت دراسات أجرتها مكاتب منظّمة الأمم المتّحدة، وأهل الاختصاص من المشتغلين بالبحث في التحوّل الديمقراطي في البلدان التي شهدت حالات حراك احتجاجي أو عمل ثوري، مثل جنوب أفريقيا، والأرجنتين، وتشيلي، وتونس، أنّ مرحلة الانتقال الدّيمقراطي تواجهها تحدّيات متشابهة، تتكرّر من بلد إلى آخر، لعلّ أهمّها عُسر عمليّة الانتقال نحو الديمقراطيّة، بسبب بيروقراطيّة الإدارة التقليديّة، واستمرار أجهزة النظام السابق في الهيمنة على دواليب الدولة، وتزايد نسق المطالب الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، والإحساس بالشكّ تجاه الحكم الجديد، والخوف من المستقبل لدى أغلب المواطنين، وصعوبة تفكيك شبكات الفساد. وتطول مدّة التحوّل نحو الدّيمقراطيّة في بلدانٍ لم تتعوّد ممارسة آليّات الحكم الدّيمقراطي.
والملاحظ في الزّمن الانتقالي أنّ عدداً مهمّاً من النّاس يجدون صعوبة في استيعاب روح الثورة، والتفكير بعقل التّغيير، فمنهم من تفاجئهم الثّورة، ومنهم من تهدّد مصالحهم، وتقوّض 
نفوذهم الفردي أو الفئوي أو الطبقي أو الحزبي. ومنهم من يجد صعوبةً في القطع نفسيّاً وذهنيّاً مع عصر الدّولة المستبدّة ومافيات الفساد الإداري والمالي والأخلاقي، التّابعة للعهد القديم، فينصرف هؤلاء وغيرهم إلى توتير الأجواء السياسيّة واختلاق الفتن، وإلهاء النّاس بالمسائل الجانبية وبصراعات الهوية، ويعمدون إلى تعكير صفو النّظام العام وتعطيل مسار التحوّل الفعلي نحو الدّولة الجمهورية، حماية للفساد وتأجيلاً للإصلاح، وهروباً من المساءلة والمحاسبة. ويشكّل هؤلاء مجتمعين ما تسمّى الدولة العميقة القادرة على هزّ كيان الدّولة الانتقاليّة النّاشئة، وتأزيم الوضع السّياسي وتهديد السّلم الاجتماعي متى وجدت الظّروف الموضوعيّة المناسبة للقيام بذلك.
ينتظر المواطنون، في أثناء الزمن الانتقالي وبعده، تحقيق عدّة مطالب، في مقدّمتها تركيز أسس دولة مدنيّة ديمقراطيّة جديدة، ذات مؤسّسات فاعلة، عادلة وشفّافة. ويفترض أن تحقّق الدّولة المدنيّة المنشودة عدّة مطامح، لعلّ أهمّها استعادة الاستقرار الأمني والسّلم الاجتماعي، وتحقيق الحدّ الأدنى من الرّفاه الاقتصادي، وإقامة أسس العدالة الانتقاليّة، وضمان الحرّيات العامّة والخاصّة، وصياغة دستور تعاقدي ينظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويحدّد صلاحيّات هياكل الدّولة ومسؤوليها، ويضبط كيفيّات إقامة دولة القانون والمؤسّسات، سعياً إلى بلورة نظام حكم ديمقراطي نزيه، توزّع في ظلّه الثّروة بطريقة عادلة، ويضمن تكافؤ الفرص، ويفعّل دور المجتمع المدني في التنوير والتّحديث وصنع القرار. ومعلوم أنّ تحقيق هذه المطالب في وقت قصير أمر قريب إلى المحال أكثر منه إلى الإمكان، فالانتقال من حال الثّورة إلى حال بناء الدّولة، والتّأسيس للدّولة العادلة بديلاً عن الدّولة القامعة، وإقامة النّظام السّياسي التعدّدي بديلاً عن النّظام الأحادي الدّكتاتوري، وتمدين المجتمع بدل تنميطه، ودمقرطة الفكر بدل توجيهه، مطالب تقتضي المراس الطّويل مع الفكر التّنويري والتعلّميّة الدّيمقراطيّة، "ذلك أنّنا أمام دولةٍ ما زالت تتصارع فيها قيم الثّقافة الدّيمقراطيّة والأصوليّة الدّينيّة [والانغلاق الحزبيّ]، وثقافتا الخنوع والكرامة الإنسانيّة وثقافتا الحرّيات وقمع الحرّيات، وغيرها"، على حدّ تعبير المفكّر العربي عزمي بشارة.
يبدو الانتقال من الشرعيّة الثورية إلى الشرعيّة التوافقيّة أمراً عزيزاً في الزمن الانتقالي، ذلك أنّ التحوّل من التحزّب والتطييف إلى واقع البناء المؤسّسي المدني المشترك يقتضي كثيراً من المرونة، والانفتاح، والإقرار بالتنسيب والتحلّي بالتواضع، مع امتلاك قوّة اقتراحية، وقدرة على التنازل، متى تطلّب الظرف الانتقالي ذلك، وهي أمور لم تتعوّد عليها الطّبقة السياسيّة العربية التقليدية. وكثيراً ما ينعكس التعصّب الفئوي أو الجهوي أو الأيديولوجي على تفاعلات الفرقاء المتحاورين حول كيفيّات ترتيب المرحلة الانتقالية، فيصطفّ كلّ طرفٍ خلف مرشّح أو برنامج 
يراه الضّامن لمصالحه والموالي له في المرحلة المقبلة. ويكون من المفيد اللّجوء إلى تقريب وجهات النّظر، والسّعي إلى التّوافق، بدل التّنافر للخروج من الأزمة وإدارة المرحلة الانتقاليّة الدّقيقة، وفق خريطة طريق مفصّلة، ورؤية برامجية مشتركة، جامعة، على نحوٍ يضمن سيرورة التحوّل الديمقراطي ويعزّز عُرى الوحدة الوطنية. لذلك من المهمّ بمكان أن تتجاوز الأحزاب خصوصاً، ومكوّنات المجتمع المدني عموماً، هاجس الانحياز إلى الدّوغما والانغلاق داخل الأيديولوجيا، وتتّجه صوب الأفق الرّحب للتعدديّة والوفاق، فمن الضّروريّ تجديد الوعي السّياسي لدى المتحزّبين وصنّاع القرار في بلدان الحراك الاحتجاجي العربي (السودان والجزائر خصوصاً) والدّفع بالشّباب إلى ممارسة دوره في التّغيير والقيادة، حتّى لا تأسر الثّورةَ عقولٌ تجاوزها العصر، ودوغمائيّات عفا عليها الزّمن. وقد بيّنت التّجربة الانتقالية في تونس أنّ التعلّمية الدّيمقراطيّة مسارٌ طويلٌ تكتسبه الشّعوب بطول الممارسة، وتحويل الوعي السّياسي من متصوَّر ذهني إلى منْجَز عمليّ ونظام مؤسّسي. ويبدو، من خلال المشهد الاحتجاجي المدني، العربي الرّاهن، أنّنا بصدد متابعة تشكّل تدريجيّ لنموذج عربيّ في الدّيمقراطيّة، يتأسّس على الفاعليّة المواطنيّة، والتعدديّة الحزبيّة، ويعد بتحجيم دور العسكر في السياسة، وتأمين التّداول السلمي على السّلطة، وترسيخ قاعدة أنّ الحكم تكليفٌ لا تشريف.
يُمكن القول، ختاماً، إنّ الثّورة ليست وهماً، وإنّ الفعل الاحتجاجي ليس حدثاً عابراً في حياة الشعوب، بل كلاهما تحوّل تاريخيّ في سيرة الأمم قد يبلغ مراده في الإصلاح والتغيير، إذا تعلّقت همم الثّائرين بتحقيق أهداف الثّورة، وقد يرتدّ إلى مربّع الاستبداد إذا غلبت المصلحة الفرديّة والفئويّة على الصالح العام، وإذا سادت عقليّة تغليب العسكر أو الولاء للجماعة أو الحزب بديلاً عن الولاء للوطن.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.