إشكالات "ما بعد الإسلاموية"

إشكالات "ما بعد الإسلاموية"

06 مايو 2019
+ الخط -
لا تتوقف الظاهرة الإسلاموية عن إثارة جدل كثير بشأن مفهومها وتمثلاتها السياسية، خصوصاً في مرحلة ما بعد الربيع العربي، وصعود الحركات والأحزاب الإسلامية إلى واجهة المشهد السياسي. لذلك بدأ بعضهم الحديث عن ظاهرة "ما بعد الإسلاموية" مفهوماً تفسيرياً وظاهرة بديلة للشكل التقليدي للجماعات الإسلامية. وبوجه عام، جاء أول استخدام لمصطلح "ما بعد الإسلام السياسي" أو "ما بعد الإسلاموية" (post Islamism) أوائل التسعينيات من القرن الماضي، في كتابات الباحث الفرنسي، أوليفيه روا، وخصوصا كتابه "فشل الإسلام السياسي" عن إخفاق الحركات الإسلامية في تحقيق أهدافها بإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، سواء في مصر أو الجزائر أو غيرهما. جادل روا، في ذلك الكتاب، بأن على الحركات الإسلامية أن تعيد النظر في مواقفها وأيديولوجيتها، خصوصا ما يتعلق بالموقف من الدولة الوطنية، وقضايا الحريات والحقوق والديمقراطية. لم يستخدم روا "ما بعد الإسلام السياسي" مصطلحا أو مفهوما تفسيريا، وإنما لفظا وصفيا لحالة العجز والجمود التي وصلت إليها الحركات والتنظيمات الإسلامية أوائل التسعينيات، خصوصا بعد فشل، أو إفشال، تجربة الإسلاميين في الجزائر، وتصاعد المواجهة بين الإسلاميين والنظـام المصري. وقد بدا استخدام اللفظ آنذاك كما لو كان امتداداً لموجة "الما بعدية" التي اجتاحت المجاليْن الفلسفي والبحثي، أوائل التسعينيات من القرن الماضي، مثل "ما بعد الحداثة"، و"ما بعد القومية"، و"ما بعد الدولة"، و"ما بعد الحرب الباردة"... إلخ. وقتها، لم يتجاوز المصطلح سقف الوصف السلبي للحالة التي وصلت إليها تيارات الإسلام السياسي آنذاك، عطفاً على أزماتها، سواء الداخلية (انشقاقات وانقسامات) أو مع أنظمة الحكم السلطوية. 
خلال النصف الثاني من التسعينيات، وتحديداً عام 1996، اكتسب مصطلح "ما بعد الإسلام السياسي" زخماً جديداً، بعد أن نشر الباحث والسوسيولوجي من أصول إيرانية، آصف بيات، 
مقالاً في دورية "نقد الشرق الأوسط" Middle East Critique بعنوان "وصول المجتمع الما بعد إسلاموي". حاول بيات فيه إضفاء قدرة تفسيرية على مصطلح "ما بعد الإسلاموية" من خلال تحليل صعود تمثلات سوسيودينية جديدة في إيران، أو بالأحرى نمط جديد للتدين، يتجاوز ما يطرحه التيار الإسلامي الكلاسيكي الذي قاد إيران، منذ الثورة عام 1979 وحتى منتصف التسعينيات. وتمثل هذ النمط الجديد للتدين في "حركة الفكر البديل" التي كان يقودها الباحث وأستاذ الفلسفة الإيراني، عبدالكريم سوروش. في المقال، عرّف بّيات "ما بعد الإسلاموية" بأنها "حالة" أو "مرحلة تلي الاستنزاف الفكري والأيديولوجي والسياسي الذي وصلت إليه الإسلاموية التقليدية، وفقدانها الجاذبية بين قواعدها ومؤيديها". وأبرز تمثلات هذه الحالة، حسب بيّات، هو القدرة على "صهر الدين بالحريات الشخصية، وتحقيق التوافق بين الإسلام والحداثة وقيم الديمقراطية".
أثار مقال بيات ردود أفعال مختلفة في الأوساط البحثية والأكاديمية، وقد اعترف بيّات، في محاضرة ألقاها، في إبريل/ نيسان عام 2005 في جامعة لايدن التي كان قد انتقل إليها من الجامعة الأميركية في القاهرة التي كان يدّرس فيها حين كتب مقال "ما بعد الإسلاموية"، اعترف بأن مصطلح "ما بعد الإسلام السياسي" قد أثار لبسا ولغطا كثيريْن بين الباحثين الذين أخرجوه من سياقه، وحاولوا إنزاله على سياقات وحالات أخرى، مثلما فعل الباحث الفرنسي جيل كيبيل الذي استخدم المصطلح للتدليل على بداية أفول التيارات الإسلامية التقليدية وانحسارها، خصوصا السلفية والجهادية، أو أوليفيه روا الذي استخدم المصطلح للتدليل على ما يسميها مرحلة "خصخصة الدين"، أو انتقاله من فضاء الدولة إلى الفضاء الخاص بالأفراد.
دفعت ردود الفعل على مصطلح "ما بعد الإسلاموية" بيّات إلى إعادة النظر به، وإمكانية تحوله إلى مفهوم تفسيري متماسك، يمكن تعميمه خارج الحالة الإيرانية، فقال، في محاضرته المشار إليها، إن ما يقصده بما بعد الإسلاموية هو "حالة" و"مشروع واع يهدف إلى عقلنة عملية 
الأسلمة التي تجري في الفضاءات الاجتماعية، والسياسية، والثقافية... وهي محاولة لقلب أولويات الأسلمة رأساً على عقب، بشكل تحل الحقوق محل الواجبات، والتعدّدية محل الصوت الواحد، والتاريخية محل النصوص الجامدة، والمستقبل محل الماضي". وهنا يؤكد بيّات، وربما رداً على انتقادات بعضهم للمصطلح الذي صكّه، أن "ما بعد الإسلاموية" ليست حركة ضد الإسلاموية، أو نقيضا لها، ولكنها محاولة لـ" إعادة علمنة الدين"، أو تقليل الدور السياسي للدين حسبما يقول.
ويمكن القول، بشأن مصطلح "ما بعد الإسلاموية"، إنه يثير عدة إشكالات أساسية، أولها أنه يعاني قدراً من الغموض والسيولة، ما يجعله فاقداً للقوة التفسيرية اللازمة لتحليل تحولات جماعات الإسلام السياسي وحركاته، وتفكيكها وتفسيرها. وثانيها، أنه مصطلح وصفي، وليس تفسيريا أو تحليليا، فهو يصف تحولات تجري في مجال الحركات الإسلامية، ولكنه لا يقدم أدواتٍ تفسيرية لإمكانية فهم هذه التحولات وتفسيرها بشكل عميق، كونه لا يتجاوز سقف وصف ما يحدث. وثالثها، أنه مصطلحٌ مؤقتٌ، أو ترحيلي يتعاطى مع مرحلةٍ زمنيةٍ معينة في طور تحولات الحركات والتيارات الإسلامية، وذلك حتى يتم التوصل إلى مصطلحات أو مفاهيم أخرى يمكنها أن تقدم تفسيرات أكثر إقناعاً للتحولات التي تشهدها التيارات الإسلامية. وأخيرا، يعاني المصطلح مما تمكن تسميته الحتمية التاريخية، إذ يفترض المصطلح أن ثمة مساراً أيديولوجيا أو فكرياً معيناً يجب أن تمر من خلاله كل التيارات والحركات الإسلامية، حتى تصل إلى مرحلة ما بعد الإسلاموية، وهو أمر مشكوكٌ في صحته.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".