أميركا وخذلان "الإخوان"

أميركا وخذلان "الإخوان"

06 مايو 2019
+ الخط -
نظّم النظام المصري، في عام 2005، وتحت ضغوط من إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، انتخابات مجلس الشعب، في أجواء من الحرية النسبية، سمحت لجماعة الإخوان المسلمين بالفوز بعشرات من مقاعد المجلس، خلال الجولة الأولى من الانتخابات، والتي أجريت على ثلاث مراحل. ودفع فوز "الإخوان" الكبير في الجولة الأولى، نظام الرئيس حسني مبارك، إلى العودة إلى أساليب التزوير الفج في الجولتين الثانية والثالثة، ويبدو أنه أقنع الإدارة الأميركية بغضّ الطرف خوفاً من فوز المتدينين في الانتخابات، خصوصاً أنهم تقدموا في كل الانتخابات الحرة التي شهدتها المنطقة العربية في تلك الفترة. وبالفعل، اقتنعت الإدارة الأميركية تدريجياً بالتخلي عن سياسة نشر الديمقراطية في العالم العربي، خوفا من صعود التيار الديني، وذلك تحت ضغوط إسرائيل والديكتاتوريات العربية وقوى اليمين المتطرّف داخل أميركا نفسها، والتي تعادي الجماعات الدينية في العالم العربي، لأسباب إيديولوجية وعنصرية. 
وعلى الرغم من فوز "الإخوان المسلمين" بعشرات من مقاعد مجلس الشعب المصري، تجنبت الإدارة الأميركية التواصل معهم بوصفهم جماعة، أو حتى أفرادا، خوفا من إغضاب نظام مبارك والديكتاتوريات العربية ولوبيات إسرائيل واليمين المتطرّف. كما حرمتهم من الحصول على أي تمويل، ضمن برامج نشر الديمقراطية التي موّلتها واشنطن في مصر في ذلك الحين.
ولمّا قامت ثورة يناير، والتي صدمت واشنطن ومؤسساتها الاستخباراتية وإسرائيل والديكتاتوريات العربية، تجنّب مسؤولو إدارة الرئيس باراك أوباما، وفي مقدمتهم أوباما نفسه ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، حتى الإشارة إلى "الإخوان" بالاسم في خطاباتهم، كما
 يذكر الصحافي الأميركي، ديفيد كيركباتريك، مراسل صحيفة نيويورك تايمز في القاهرة خلال سنوات الثورة المصرية، في كتابه المهم "في أيدي العسكر"، والذي يعد من أبرز الشهادات التي صدرت في رصد الموقف الأميركي من انتفاضة يناير الجماهيرية.
وفقاً للكتاب، تجنب مسؤولو إدارة أوباما الإشارة إلى "الإخوان" بالاسم، خوفاً من وصمهم بدعم الجماعة أو القرب منها، وكانوا يشيرون إليها باسم "الفاعلين غير العلمانيين". وعلى الرغم من فوز "الإخوان" في انتخابات مجلس الشعب، تلكأ المسؤولون الأميركيون في التواصل مع الجماعة، حتى يوليو/ تموز عام 2012، وحتى وجدوا أن دولاً غربية أخرى، وفي مقدمها بريطانيا، تتواصل مع الجماعة.
حتى بعد فوز الرئيس محمد مرسي بالرئاسة، ظلت العلاقة بينه وبين إدارة أوباما فاترة، حتى حرب إسرائيل العدوانية على غزة، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، والتي لعب فيها الرئيس مرسي، بالتنسيق مع أوباما، دورا كبيرا في التفاوض لوقف الحرب. ولذا نال مرسي إعجاب أوباما، وجعله يشعر بأنه يمكن أن يتعاون مع الرئيس المصري المنتخب أكثر. ولذلك دعت الإدارة الأميركية، مستشار الرئيس المصري للشؤون الخارجية، عصام الحداد، إلى زيارة مسؤولين أميركيين في واشنطن، في ديسمبر/ كانون الأول 2012. وخلال الزيارة، فوجئ الحداد بدعوته إلى زيارة أوباما نفسه، واللقاء معه في البيت الأبيض، حيث دار حديث بينهما، ركّز فيه أوباما على نصيحة الحداد بضرورة العمل مع المعارضة المصرية، وتوحيد صفوفها خلف الرئيس مرسي.
لم تمهل الظروف مرسي وأوباما فرصة للعمل سوية، خصوصاً أن أوباما كان مشغولاً في الأساس بمشكلات بلاده الداخلية، والتي جعلته لا يلقي اهتماما كثيرا بالشأن المصري، منذ منتصف عام 2011 تقريبا، أي بعد شهور قليلة من انتفاضة يناير، وذلك وفقا لشهادة مستشاره وكاتب خطاباته بن رودز، في كتابه "العالم كما هو"، والذي أكد أن سياسة أوباما تمحورت بالأساس على دعم جهود المجلس العسكري لإعادة الاستقرار والانتقال السياسي في مصر. ومع تصاعد الأحداث في مصر، خلال النصف الأول من عام 2013، حاول أوباما وسفيرته في القاهرة، أن باترسون، التواصل مع مرسي ومساعديه، لنصحهم بضرورة الوصول إلى توافق سياسي مع معارضيهم، يحول دون تطور الأحداث سلبيا، وذلك في مواجهة تيار آخر داخل الإدارة الأميركية، مثّله وزيرا الخارجية والدفاع، كانا أقل رغبةً في التواصل مع مرسي، وأكثر قربا من الجيش، وتأثرا بضغوط لوبي إسرائيل ولوبيات دول الخليج التي كانت تعمل بقوة داخل واشنطن، لإقناعها بالتخلي عن مرسي، ودعم الانقلاب العسكري المقبل. ويبدو أن التيار الثاني هو الذي انتصر في النهاية، ففي صباح اليوم التالي للانقلاب، ووفقا لكيركباتريك، فاجأ أوباما مساعديه بمبادرته برفض تسمية ما حدث في مصر انقلابا عسكريا، حتى لا يؤثر ذلك على تدفق المساعدات الأميركية لمصر، ومعظمها مساعدات عسكرية (1.3 مليار دولار) تقدمها الولايات المتحدة لمصر سنويا، ضمن تفاهمات اتفاقية كامب ديفيد (1979).
وبعد المجازر التي ارتكبها الانقلاب العسكري في حق مئات من أنصار جماعة الإخوان المسلمين، علقت الإدارة الأميركية مساعداتها لمصر عدة شهور، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2013،
 ولكنها سرعان ما استأنفتها تدريجيا منذ إبريل/نيسان 2014، ثم لم تفعل الإدارة الأميركية شيئا يذكر لوقف الانتهاكات الصارخة في حق أتباع الجماعة في مصر، بما في ذلك قتل مئات منهم في الشوارع، وسجن عشرات الآلاف، والحكم على مئات منهم في محاكم جماعية تفتقر إلى أدنى معايير العدالة.
وبهذا تكون أميركا، ممثلةً في حكومتها، قد خذلت إخوان مصر خلال عقد ونصف مرتين رئيسيتين على الأقل. مرة حين سمحت بالتزوير والقمع ضدهم خلال حكم مبارك، وحرمتهم حتى من التدريب في برامجها المعنية بنشر الديمقراطية والحريات، ومرة ثانية حين تجنبتهم بعد ثورة يناير. ولم تفعل شيئا يذكر لرفض الانقلاب العسكري، ومعارضة ما يتعرّضون له من انتهاكات. وسبب الخذلان واحد في الحالتين، وهو تفضيل أميركا لمصالحها على قيمها، وخضوعها، في النهاية، لضغوط لوبيات المال والسلاح والعنصرية الداعمة لإسرائيل والديكتاتوريات العربية.
وتفيد أخبار وتصريحات صدرت أخيرا عن البيت الأبيض بأن الإدارة الأميركية الحالية، بقيادة دونالد ترامب، تستعد لخذلان "الإخوان" مرة جديدة، من خلال العمل على إعلان الجماعة منظمة إرهابية، على الرغم من عدم توفر شروط "الإرهاب" بتعريفه الأميركي فيها، وفي مقدمتها تبني جماعة الإخوان العنف وانخراطها فيه. ولا تتورع الإدارة الأميركية الراهنة، والمحسوبة على اليمين المتطرف، عن الفخر بعلاقتها بالديكتاتوريات العربية الثرية، وبحرصها على أموالهم، بغض النظر عن القيم الأميركية. كما تفتخر أيضا بدعمها المتطرّف حكومة 
إسرائيل على حساب القوانين الدولية نفسها. ويلاحظ أيضا أن خذلان أميركا "الإخوان" لا يعني تبرئة الجماعة من الأخطاء السياسية الجسيمة والعديدة التي ارتكبتها وترتكبها في الداخل المصري، فالجماعة تتعرّض بشكل مستمر لانتقادات عميقة من أتباعها الحاليين والسابقين، وفئات واسعة من المصريين، والذين يشعرون بأن الجماعة خذلتهم بعجزها عن الانفتاح السياسي، وبضعف قدراتها السياسية، ما سهل من مهمة الجيش في الانقلاب على حكم الرئيس مرسي. ولكن هذا لا يعني تحميل "الإخوان" مسؤولية خذلان أميركا لهم، فخذلان الإدارات الأميركية المختلفة "الإخوان" قديم، وهو يرتبط بضغوط لوبيات المال والسلاح والعنصرية الضخمة والفاعلة داخل واشنطن، كما يعد هذا الخذلان ضلعا أساسيا في السياق الدولي الداعم للاستبداد والمقوّض للديمقراطية في العالم العربي.
أضف إلى ذلك، أن خذلان الإدارات الأميركية المختلفة "الإخوان" حلقة صغيرة في سلسلة خذلان أميركا والغرب جماعات المعارضة العربية المختلفة، والشعوب العربية ذاتها، والتي تدفع أثماناً باهظة، من أجل رغبتها في الحرية والديمقراطية. في حين تفضّل العواصم الغربية، في النهاية، الحفاظ على الوضع الاستبدادي والاحتلالي القائم في المنطقة، إرضاء للوبيات المال والسلاح والعنصرية المهيمنة داخلها، فلو دافعت أميركا عن حق "الإخوان المسلمين"، وغيرهم من قوى المعارضة المصرية والعربية، في المشاركة الديمقراطية منذ عام 2005 أو قبل ذلك، ولم تخذلهم، لربما تجنّب العالم العربي حروبا وقلاقل جسيمة كثيرة يعيشها الآن.