الجيش الجزائري.. الوصاية على الحراك ومرافقته

الجيش الجزائري.. الوصاية على الحراك ومرافقته

05 مايو 2019
+ الخط -
ثمّة ما يشبه إجماعاً على أن الجيش في الجزائر يمتلك جل مفاتيح حل الأزمة الراهنة، فللأسبوع الحادي عشر، يتواصل الحراك السلمي، ويظل المخاطب الوحيد تقريبا هو الجيش، بعد أن تنحّى جزء من النخبة الحاكمة، ولاذ من تبقى بالصمت، وتحول الحراك إلى حوار ضمني بين المحتجين والجيش. يتظاهر الناس، ويستعرضون رسائلهم يوم الجمعة، يجيب الجيش عبر بلاغاته، وتصريحات القائد الأعلى لأركانه، يوم الأحد تقريبا، تدخل النخب الجامعية والمهنية يومي الثلاثاء والأربعاء، وتعيد الجماهير الإجابة الحاسمة يوم الجمعة الذي يليهما، وهكذا دواليك في نسقٍ غدا معلوما تقريبا. ازداد هذا الانطباع رسوخا لدى الكاتب، بعد استماعه إلى ثماني مداخلات، قدّمها أشقاء من الجزائر، استقبلهم فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، ينتمون إلى اختصاصات متنوعة (علم الاجتماع، علوم سياسية، علوم الإعلام والاتصال، قانون...) وأجيال مختلفة. وربما لم يستسغ بعض التونسيين وغيرهم ممن حضروا الندوة قبول نخب جامعية أن يلعب الجيش دورا سياسيا في حل الأزمة، والحال أن الجيوش ابتكرت لحراسة الحدود، وصون الأمن الوطني. ولكن ينبغي نسبة المسائل، إذا ما تعلق الأمر بالحالة الجزائرية.
ولد الجيش الجزائري من رحم الثورة الجزائرية، فهو ليس جيش الدولة الوطنية وأحد علامات سيادتها فحسب، بل هو من وهب أصلا للجزائريين دولتهم المستقلة. جيش التحرير هذا هو الذي صنع الملاحم والبطولات. لذلك لا يحضر في مخيال الجزائريين على اعتباره جيش الدولة، بل جيش الثورة. ثمة مشاعر خاصة، لا يستوعبها ربما ولا يقدرها إلا الجزائريون.
يذكر أستاذ علم الاجتماع الجزائري، عبد الناصر الجابي، في مداخلته، أن حادثة وفاة نحو
260 عسكريا جزائريا في تحطم الطائرة في أبريل/ نيسان 2016 كشفت، مرة أخرى، أن الجيش الجزائري "جيش شعبي"، إذ توسعت قاعدة انتداباته لتشمل كل التراب الوطني الجزائري، فمراسم دفن الضحايا التي أقيمت في التوقيت نفسه تقريبا بيّنت أن منتسبيه من كبار الضباط، أو غيرهم من الرتب الصغيرة، ينتمون إلى مختلف المناطق الجزائرية، بعد أن ظلت نواته محصورة في منطقة معينة، وأن عائلات الضحايا ينتمون إلى فئات شعبية دنيا (منازل متواضعة، ثياب تقليدية للجزائر العميقة ...).. إلخ.
حدثت في مستوى ممارسات العسكر انحرافات في تاريخ الجيش الجزائري، وزجّ في معركة طاحنة، حين تم تحريضه على التدخل لوقف المسار الديموقراطي، وانقلب على أول تجربة ديموقراطية (ربيع الجزائر 1992)، لتدخل الجزائر بعدها العشرية السوداء التي قد يكون الجيش طرفا مهما في ما عاشته من أحداثٍ مروّعة. ولكن يبدو أن الجيش مصرٌّ، هذه المرة، على ألا يلعب الدور نفسه.
لا توجد وصفات جاهزة للتعامل مع مؤسسة الجيش في فترات الانتقال الديموقراطي. ما يعود إلى عوامل عدة، لعل أهمها سياقات بناء الجيش وعقيدته ومساهماته في معارك التحرّر والتنمية، فضلا عن مواقفه من الصراعات السياسية والاحتجاجات التي عرفتها الدول، إضافة إلى مدى انخراطه في عملية الانتقال الديمقراطي وتركيبة قياداته، وارتباطاتهم بدوائر المال والنفوذ.. إلخ. يبدو من عدة تجارب أن الجيوش العقائدية، والتي تنخرها الانتماءات الطائفية والعرقية، تظل آخر جيوب ممانعة لمحاولات التحولات الديموقرطية، فتكون آخر قلاعٍ يتحصن فيها النظام. لقد رأينا جيوشا في اليمن وسورية وليبيا تقاوم شعوبها، في حين خرّبت المؤسسة العسكرية في مصر، لاعتباراتٍ عديدة، مسار التحول الديموقراطي، وأجهضته.
يظل الجيش الجزائري نموذجا مخالفا لتلك الجيوش، ومقارنته بها مضللة، وأحيانا غير دقيقة، فعلاوة على أنه "جيش شعبي" سليل معركة تحرّر وطني، فإن عقيدته ليست طائفية أو عرقية، غير أن هذا العقيدة أعطته نوعا من الوصاية الممزوجة بالأبوية الجديدة، وهي التي فوّضت له مهام "غير تقليدية"، لا يستطيع المتابع من خارج الجزائر قبولها. لكل تلك الاعتبارات، تلجأ شرائح عديدة من الجزائريين، بمن فيهم المنخرطون في الحراك والمناصرون له، للجيش، فهو حاميهم من الفوضى والعنف، وهو مرافقهم في هذا التحول المأمول، فلا يقترح هؤلاء على الجيش أن يمنع الفوضى فحسب، بل أن يسهر على حسن تطبيق الدستور، ويعينهم على التخلص من النخبة الفاسدة.
بقطع النظر عن سلامة هذا التمشي، وتطابقه مع قواعد الدولة المدنية والديموقراطية التي 
تفترض أن يهتم الجيش بأمن الحدود، وترتيب ثكناته، فإن الجيش في الجزائر مدعوٌ، لأكثر من سبب، إلى أن يرافق الانتقال الديموقراطي. وكل المؤشرات، إلى الآن، تؤكد أنه لن ينقلب على هذا المسار، بقطع النظر عن خريطة الطريق الأسلم التي توصل الجزائريين إليه، وهو الذي حمى هذا الحراك، وباسمه أيضا دفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى التنحي، وباسمه هذا الحراك ومشروعيته أيضا، يقود حملة ضد الفساد، وهي في الأصل من مهام حكومات مدنية، تؤمن الانتقال الديموقراطي بكل مستلزماته: انتخابات حرّة، عدالة انتقالية، مكافحة الفساد.
يلعب الجيش في الجزائر هذه المهام التي هي في الأصل ليست من مهامه، وربما لا يعود ذلك إلى مجرد حنين إلى دور شمولي، مارسه الجيش باسم الوصاية على الثورة، وعلى الأمة، بل أيضا لضعف إدارة النخب عملية التفاوض وتشتتها، وهو ما منعها أيضا أن تكون محاورا جيدا يقدم حلولا ومقترحاتٍ من شأنها أن تحجم أدوار الجيش المدنية ليعود إلى وظائفه التقليدية المتعارف عليها، ويترك شأن السياسة والانتقال الديموقراطي إلى السياسيين فحسب.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.