المُصحَف المصري والقوّة الناعمة

المُصحَف المصري والقوّة الناعمة

01 يونيو 2019

زخارف المصحف المصري (موقع الدعوة الإسلامية)

+ الخط -
شرعت في البحث عن نُسخ من المصحف المصري "الأميري"، وبعد جهد جهيد عثرت على بغيتي، بعدما وجدت نُسخاً حديثة الطباعة منه، طبعة "الشمرلي" العريقة الجميلة، فاشتريت ثلاث نُسخ. وكنت قد اعتدته منذ الصغر، ولم أعتد مطلقاً استخدام طبعات المصحف الآل سعودي، المعروف بمصحف الملك فهد، التي ظهرت في مصر منذ نهاية الثمانينيات، وتختلف في إخراجها الفنّي عن المصحف المصري ونهاية ترقيم الآيات في كلّ صفحة. وقد تعلّمنا من أساتذتنا ألّا ينوّع المرء بين المصاحف، لأن الصفحة تنطبع في ذاكرته بشكلها وترتيب سطورها. 
أخذت طبعات المصحف الآل سعودي في الانتشار تدريجياً، حتى صارت أخيراً الأصل في التداول، بعدما أزاحت المصحف المصري من عرشه في داره، فقد أصبح العثور على نسخة منه في المكتبات غير يسير، وفي المساجد، من بين كلّ عشرة مصاحف تجد بالكاد واحداً مصرياً (!).
كتبت عن شرائي نسخة جديدة من المصحف منشوراً في "فيسبوك"، فوردتني تعليقات أكدت ما ذكرته، وسألني بعضهم عن المكتبة التي ابتعت منها المصحف. والأهمّ هو ما تفضّل به صديق ستيني من الأردن، كتب أن علاقته بالمصحف المصري (طبعة الشمرلي) حميمة، فقد حفظ القرآن الكريم منه، وأكّد أنه لا يستطيع التعامل مع غيره بتاتاً، لاختلاف مواقع الآيات. وأبدى أسفه على أن هذه الطبعة صارت شبه مفقودة في المكتبات والمساجد في الأردن، ولكن إمكانية تحميلها على الهاتف خفّفت من وقع المشكلة، بتعبيره.
يعدّ هذا الكلام ترجمة دقيقة لمفهوم القوة الناعمة الذي سكّه عالِم السياسة الأميركي جوزيف ناي، وبيّن تأثيره في العلاقات الدولية، وعرّفه بشكل مُختصَر بأنّه "القدرة على الحصول على ما تُريد عن طريق الجاذبية، بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال، وهي تنشأ من جاذبية ثقافة بلدٍ ما، ومثله السياسة ومدى مشروعية سياساته في عيون الآخرين". وكتب عن ذلك تفصيلاً في كتابه "القوّة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية"، متناولاً مواردها وآثارها في وزن الدولة الإقليمي، وربط بين قدرتها على التأثير في التفاعلات الإقليمية والدولية ونجاحها في
توظيف أدوات قوّتها الناعمة بالشكل الأمثل.
الثروة الثقافية ركيزة أساسية من ركائز القوّة الناعمة للدولة. والثقافة هنا ما تملكه الدولة من مؤسسات علمية، وثقافية قادرة على التأثير في تشكيل وعي الأجيال الجديدة في الداخل، وامتداد هذا التأثير إلى خارج حدودها، وما تحتضنه من صُنّاع للإبداع بمختلَف ألوانه، وما يُنتجه المجتمع من إبداع علمي، وفكري، وأدبي، وفنّي، وتتضافر هذه العناصر، لتشكّل في المحصّلة النهائية، ذخيرة القوّة الناعمة الثقافية للدولة.
يُعدّ المصحف المصري جزءاً من السمت الأزهري، المعروف بوسطيته واعتداله، إلى جانب أنّه من أهمّ أدوات القوّة الناعمة المصرية، فقد حفظت أجيال عديدة القرآن، من المصريين والعرب، منه، كما أنّه جزء من تاريخ مصر الحديث، إذ ظهرت طبعته الأولى في 1924 في عهد الملك فؤاد، باسم مصحف "مصلحة المساحة"، لتكون أوّل طبعة مصرية كاملة، وخرجت بعدها طبعات تالية، بعد تنقيح طبعته الأولى وتدقيقها، ثمّ ظهرت نسخة مطبعة "الشمرلي"، وتصدّرت لاحقاً لتكون الأولى في حركة اقتناء المصحف في العالم الإسلامي.
التراجع الشديد الذي أصاب مصحف "الشمرلي"، لا يمكن فصله عن الانحسار الذي أصاب أموراً أخرى من أدوات القوّة الناعمة المصرية، مثل انحسار سمّاع القرّاء المصريين العظام، مثل محمد المنشاوي، وعبد الباسط عبد الصمد، ومحمود الحصري، ومحمد رفعت، لصالح انتشار أصوات أخرى من سمتٍ آخر. ويأتي هذا في سياق انحسار السمت الأزهري الوسطي بصفة عامّة، لصالح انتشار سمتٍ مغاير يُعنى بالمظاهر والشكليات الدينية (فقه اللحية والنقاب)، ويميل إلى التنطّع والتزمت والتيبّس والتشدّد، تحت دعاوى التسلّف، واحتكار تمثيل "الفرقة الناجية" للعمل بالكتاب وصحيح السُنّة (!).
يحمل انحسار حضور المصحف المصري في وطنه دلالاتٍ كثيرة مُؤسِفة، ومُحزِنة، ومُؤلِمة، تستحقّ وقفةً طويلةً لإعادة إحياء أدوات القوّة الناعمة المصرية، وإزالة الصدأ الذي ران عليها جرّاء الإهمال، وجهل بعضهم بمكامن قوّة مصر، بعدما أهمل الاعتناء بها عقوداً طويلة، ولم يُحفاظ عليها عبر صقلها وتطويرها، فتأثير القوّة الناعمة للدولة يفوق بمراحل تأثير قوّتها الصلبة، فبعض الدول تمتاز بنفوذ وقدرة على التأثير في مسار السياسة الدولية، بصورةٍ أكبر ممّا يوحي به وزنها الاقتصادي أو العسكري، بسبب جاذبية قوّتها الناعمة في المقام الأوّل.