أنقرة والتجاذبات الأميركية الروسية

أنقرة والتجاذبات الأميركية الروسية

01 يونيو 2019
+ الخط -
إذا ما سارت الأمور كما هو مخطط لها، فمن المفترض أن تسلّم روسيا تركيا أول شحنة من صواريخ إس 400 في يوليو/ تموز المقبل. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحدّثنا قبل أسبوعين، عن التنسيق التركي الروسي الاستراتيجي، الواسع الذي سيصل إلى الشراكة في تصنيع منظومة صواريخ إس 500 الأكثر تطوراً. وإذا ما قرّرت واشنطن تنفيذ تهديداتها بتطبيق رزمة عقوباتٍ تلوّح بها ضد أنقرة، بسبب الصفقة التركية الروسية، فهي ستبدأ ذلك خلال أسبوع على شكل تصعيد تدريجي، يهدف إلى استبعاد تركيا عن شراكة تصنيع وبيع مقاتلات إف 35، والضغط على الحلفاء الغربيين، ليقفوا إلى جانبها في موضوع مراجعة الوجود التركي داخل المنظومة الأطلسية.
إذا ما توترت العلاقات التركية الروسية أكثر من ذلك في ملف إدلب في شمال سورية، وجبهة النصرة، وهجمات النظام السوري على شرقي حماة، فالمشكلة ستكون أبعد من تجميد تفاهمات أستانة وسوتشي، وستصل إلى خطر تراجع الروس عن قرار الإسراع في تسليم الصواريخ، التي دفعت أنقرة 2،5 مليار دولار من ثمنها. هذا إلى جانب أزمة احتمال إيقاف واشنطن كل التنسيق والتعاون في مشروع المقاتلة الأميركية، على الرغم من إنفاق تركيا سبعة مليارات دولار.
تركيا، حسب محللين كثيرين، أمام ورطة الخروج من الصفقتين بيد فارغة، لكن أردوغان يقول إن بلاده ستأخذ ما هو حقها حسب العقود والاتفاقيات؛ الصواريخ والطائرات وقطع الغيار 
والمشاركة في التصنيع والتسويق. وهناك من يردّد في أنقرة بأن تركيا ما زال بيدها خيارات وبدائل وأوراق كثيرة للرد على موسكو وواشنطن. وتحريك جبهة الساحل السوري من السيناريوهات التي تناقش اليوم، إذا وصلت الأمور إلى طريق مسدود في التوتر التركي الروسي. وإذا استمرت مواجهات إدلب على هذا المنوال، فإنها ستعيد أنقرة وموسكو إلى المربع الأول في سورية قبل أعوام، لكنها قد تتحول إلى الفرصة التي تريدها واشنطن، للتصعيد أكثر فأكثر ضد إيران في سورية، ما سيقود إلى ضعف النفوذ الروسي هناك، حسب الحسابات التركية.
اتحد الجمهوريون والديمقراطيون في الكونغرس، بغرض توجيه الإنذار الأخير لأنقرة قبل إطلاق يد الرئيس ترامب في قرار العقوبات، والمقاطعة وتضييق الخناق على تركيا إقليمياً. وروسيا متمسّكة في موضوع تحريك قوات النظام السوري إلى منطقة تخفيض التوتر وقلب إدلب والمناطق الحدودية، بعدما تأخرت أنقرة في القضاء على مجموعات جبهة النصرة، بحسب اتفاقية سوتشي. ولم تعد موسكو تعبأ بالأصوات والتحذيرات التركية والغربية عن انفجار أزمة لجوء كبيرة، تتحول إلى كارثة بشرية وإنسانية، بل تعمل الآن على رفع مستوى تنسيقها مع مجموعة "وحدات حماية الشعب" الكردية في تل رفعت، لإطلاق يدها مجدّداً هناك.
كان الرهان التركي الروسي، منذ تفاهمات أستانة وسوتشي، على إطلاق صيغة حلول سياسية وأمنية جديدة مؤقتة في شمال سورية، تكون مقدمة لتحرّك أوسع، يشمل التسوية السياسية في البلاد. وقالت أصوات في المعارضة السورية يومها، إن تفاهمات سوتشي تعتبر نصراً مزدوجاً لها ولتركيا، إذ تخلت موسكو عن الخيار العسكري، وقبلت بتسوية منطقة تخفيض التوتر، فيما الحالة اليوم تذهب باتجاه معاكس، والانفجار الأمني داخل مربع إدلب وحماة يهدد كل هذه التفاهمات. النظام ومن يدعمه يستخدمون كل ما هو ممنوع ومحرّم من أسلحة لحرق منطقة إدلب وريف حماة بمن فيها، ومستبعد أن موسكو لا تعرف ذلك.
السبب الأول للانزعاج الروسي تعزيز مجموعات جبهة النصرة نفوذها وتمدّدها في إدلب وجوارها، على الرغم من تعاون موسكو مع أنقرة في موضوع دخولها العسكري إلى عمق إدلب وإنشاء أبراج المراقبة، ثم عودة بعضهم في تركيا إلى التلويح بأوراق كثيرة تملكها تركيا، للرد على خروق النظام، الروسية أولاً وأخيراً، ومواصلة أنقرة تحميل الكرملين مسؤولية ما يحدث، لكونه الطرف الضامن في أستانة وسوتشي.
قد تخسر أنقرة الصواريخ والطائرات معاً إذا ما لعبتها على طريقة عليّ وعلى أعدائي مع 
واشنطن وموسكو. الحالة التركية اليوم تختلف كلياً عن وضع فرص الضرب على الحافر الأميركي والسندان الأوروبي، كما كانت تفعل أنقرة قبل عقود. تنافس أميركي روسي على خط إدلب القامشلي قد يتحوّل إلى تقارب وتعاون، إذا ما تصلبت تركيا في مواقفها ومطالبها. ويقول وزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، إن بلاده تمتلك المال والقدرات لشراء الصواريخ والطائرات التي تحتاج إليها، لكن التوتر التركي الروسي يتصاعد، فمع من ستنسّق أنقرة إذا خسرت رهانها على واشنطن وموسكو في الوقت نفسه؟ التقارب أو التباعد بين أنقرة وموسكو يحدّده حجم التقارب والتباعد بين أنقرة والعواصم الغربية أيضاً. ولكن الذي لا يريد بعضهم أن يتوقف عنده في تركيا احتمال التقارب الأميركي الروسي، والأوروبي الروسي، في التعامل مع ملفاتٍ إقليميةٍ استراتيجيةٍ حسّاسةٍ، بينها تقاسم النفوذ على الطاقة والأسواق التجارية والخرائط السياسية الجديدة، وأن تجد أنقرة نفسها تتقدّم بصعوبة، وسط معادلاتٍ متشابكةٍ من هذا النوع. ولعبة التوازنات السياسية والأمنية التي تبنتها تركيا سنوات طويلة، في علاقاتها مع الشرق والغرب، تعاني من مشكلة الحوار المباشر بين كتل التصادم هذه المرة، وفرص المناورة للوقوف على مسافة واحدة من الجميع، لا تعمل وسط الظروف والمعطيات الإقليمية الحالية.
المشهد السياسي والاقتصادي داخل تركيا مهم أيضاً في هذه النقاشات. قد يفتح فوز آخر لمرشّح المعارضة التركية في انتخابات الإعادة لرئاسة بلدية إسطنبول، الطريق أمام تحريك الأحجار وإطلاق حملة تعميم الشعار في البلاد بأكملها، وسط سيناريوهات المواجهة السياسية الساخنة المرتقبة بين الحكم والمعارضة.
4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.