"مقامات".. كل هذه الرياحين

"مقامات".. كل هذه الرياحين

31 مايو 2019
+ الخط -
"الكونُ إلى جمالِكم مشتاقُ/ والعالمُ كلّه لكم عُشّاقُ"، مطلع مغناةٍ قصيرةٍ، بديعةٍ، للزّجال الأندلسي الزاهد، أبو الحسن الششتري، تقيم في ذاكرة صاحب هذه الكلمات، بصوت السوري موفّق بهجت (ما أخباره؟)، منذ مطالع السبعينيات. ولكن بهجةً غزيرةً تشيع في الحشايا عندما تسمعها، في سهريّة أول أيام رمضان الحالي، بصوت التونسية سيرين بنموسى، وهي تضمّ عودَها إليها، في إطلالةٍ تضجّ بالحُسن والملاحة وأناقة الروح وجمال الأداء وصفاء الصوت، في أولى حلقات برنامجٍ بالغ الاستثنائية، لا تزيّد في وصفه تحفةً في برامج المنوّعات المرئية، الثقيلة المستوى والجذّابة في آن، أهداه التلفزيون العربي، في أمسيات هذا الموسم الرمضاني، لجمهوره العريض. وباكتمال الشهر المبارك، بعد أيام، تكتمل مكتبةٌ ثمينةٌ من سماعياتٍ ومرئياتٍ لأصواتٍ عربيةٍ، كثيرٌ منها ساحرٌ وآسر، لا تحوز شهرة السوق إياها، يُمتعك أصحابُها، من الجزائر وسورية وليبيا والمغرب وتونس ومصر والأردن و..، في الذي تسمع منهم، من الملحون والمالوف والموشّحات والقدود والمدائح والصوفيات والمقامات والكلثوميات والطربيات والكلاسيكيات والابتهالات والصنعانيات، وغير هذه كلها من إيقاعاتٍ وتقاسيم من تراثٍ قديمٍ وآخر غير بعيد، قادمةٍ مثلا من أشعار الحلاج ولسان الدين بن الخطيب وصلاح جاهين، وغيرهم، ومن ألحانٍ موروثة، وأخرى حديثة للسنباطي وعبد الوهاب والشيخ عمر البطش وعلي الهلباوي، وغيرهم، فتغبط نفسَك على هذه اللطائف التي تسمع، وعلى أنفاس رياحين موصولةٍ معها، فتُنصِت، وتفرح بكل هذا الجلال، وأنت في حضرته سمّيعٌ فحسب، وتتزوّد بإحاطةٍ تعرّفك بكل هذا الغناء الذي تطوف معه، في الحوارات بين مقدّم البرنامج، المثقف الملحن والمغنّي المغربي رشيد غلام، وهؤلاء المستضافين في هذه الأماسي، عندما يتحدّثون باقتدار، وبشغفٍ ووجدانٍ محبٍّ. 
إنها مواهبُ وكفاءاتٌ تحتاج إلى شغلٍ إعلاميٍّ كثيرٍ للإضاءة على إبداعاتها، سيما وأن ثقافةً ثريةً، يحوزونها، وغالبيتهم شبّانٌ وشاباتٌ. وهنا بالضبط الصنيعُ المدهش الذي أدّاه رشيد غلام الذي أجيز لي أن أحسَدَه على درايته بموسيقاتٍ بلا عدد، ومعرفته بملَكات ضيفاته وضيوفه، وبأصواتهن وأصواتهم، بل وتحصيلهم العلمي أيضا، فبعضُهم أصحاب شهادات عليا وباحثون في الموسيقى. وعندما سمّى برنامجه، الفائق في بساطة ديكوراته، "مقامات"، فإنما للإحالة إلى المقام العالي الذي تُحرزه الموسيقى لدى الشعوب والأمم، بالمعنى اللغوي، أو ربما إلى المنزلة التي يجدُر أن تكون لها، وليس إلى المقام، واحدا من ألوان الموسيقى، وهو الحاضر في البرنامج من دون ميزةٍ تخصّه، وإنما حاضرٌ كما أجناسٌ أخرى. فإذا كان السوري (الشامي الحلبي كما يتم تعريفُه في الحلقة)، خالد الحافظ، غنّى "طاب وقتي" من مقام البياتي، مجهول الكلمات واللحن، فإن الأردنية نداء شرارة تغنّي لأم كلثوم "هو صحيح الهوى غلاب". ويؤدّي المغربي عبد الرحيم عبد المؤمن ورشيد غلام وصلةً مشتركةً من موال "سلبت ليلي"، ويغنّي اليمني حسن المحب، من كلمات الكوكباني وألحان فلكلورٍ صنعاني "ربِّ بالسبع المثاني".
ينقل رشيد غلام، في تقدمته واحدةً من الحلقات، عن الشيخ بن عجيبة (فاسيٌّ متصوف) قوله إن "السماع يحرّك ما ينطوي عليه القلب من السرور والحزن والرّجاء والشوق، فربما يُخرجُه إلى البكاء، وربما يُخرجه إلى الطرب". و"مقامات"، المرجوّ أن تُتاح إعاداتُ عرضٍ له قريبة على تلفزيون العربي (وغيره)، يوقظ في المُرابط أمامه، المُنصت، المجدّ طبعا، إلى الأصوات الثلاثين التي استُضيفت في حلقاته، رغبةً باستزادةٍ أوفى وأوفى وأوفى من هذا النهر، الوفير بمياهٍ ماشيةٍ، متمهّلةٍ، صافيةٍ كمرآة، وديعةٍ مثل كفِّ أمٍّ مبسوطةٍ على جبين ولدها، نهر الغناء العربي، وما يتوزّع فيه من إيقاعاتٍ متنوعة، كرديةٍ وأمازيغية وتركيةٍ ومتوسطية، وموروثاتٍ آسيويةٍ، وما يتنوّع فيه من تأثيرات. وقبل ذلك كله وغيره، بكل ما يحتشد فيه من طاقةٍ على استنفار كثيرٍ مما حكى عنه ابن عجيبة. أما ما يحتشد من إعجابٍ باهظٍ أحدَثَها "مقامات"، بإجادة رشيد غلام في تقديمِه ومحاوراتِه، وبعونٍ من الزميل محمد طلبة رضوان، وفريق الإخراج والإشراف والمتابعة، وكذا بعزف الموسيقيين المتقن، فلم يكن في وسع هذه المقالة أن تبسَطَه كله، فكان النزرُ الشحيح أعلاه.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.