ماكرون والخسائر الفرنسية

ماكرون والخسائر الفرنسية

04 مايو 2019
+ الخط -
لم تتخذ فرنسا دوراً مبادراً في الصراعات الأفريقية، خصوصاً في ليبيا أخيراً، وفي منطقة الساحل الأفريقي، سوى في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون. عادة لم تهمل باريس مستعمراتها السابقة، غير أنها خرجت من الصورة في السنوات الأخيرة، سواء بفعل تعدّد اللاعبين الإقليميين والدوليين في دول أفريقية عدة، أو بسبب تطوّر النزاعات. وهو ما حداها إلى التدخّل بقوة عسكرياً، ولو بصورة سريّة أو مبهمة، كما تفعل في دعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا.
لا يعود السبب فقط إلى رغبة في "العودة إلى الجذور"، بقدر ما أنه مرتبطٌ بمواجهة التغلغل الصيني والروسي والأميركي في القارة الأفريقية. الصفقات المعقودة في عديد من تلك الدول باتت بعيدة عن فرنسا. وخسارة أفريقيا بالنسبة لباريس مثل خسارة شارع الشانزليزيه لصالح الألمان. يعمل الفرنسيون على العودة بقوة إلى هناك، ولو اقتضى الأمر التركيز على مناطق محددة، كغرب ليبيا وجنوبها، تحديداً في ملف النفط، أو في استمرار وجودهم العسكري ضمن القوة المشتركة، والتي سبق أن أعلنت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، استئناف عملها في سياق "مكافحة الجهاديين"، بحسب وصفها، في يناير/ كانون الثاني الماضي، بعد أشهر من وقف قسري للعمليات، إثر اعتداء ضرب مقرّ القوة في سيفاريه، وسط مالي، في 29 يونيو/ حزيران الماضي. وكان لافتاً أن قرار استئناف العمليات في منطقة الساحل سبق هجوم حفتر على الغرب الليبي بأسابيع قليلة.
بالنسبة للفرنسيين، إن تتالي المنافسين في أفريقيا، ثم تعرّض بحريتها لحادثة مع البحرية الصينية في مضيق تايوان، مطلع شهر إبريل/ نيسان الماضي، كشف عن محاولة لإبعادها عن الواجهة الاقتصادية. حتى أن خلافها مع إيطاليا في شأن ليبيا يندرج في سياق مواجهتها الروس والصينيين والأميركيين، أكثر من كونه محاربة للإيطاليين أنفسهم.
باتت الشركات الصينية في قلب أفريقيا، كما أضحى للروس في أفريقيا الوسطى مستشارون عسكريون. بالطبع، انشغال ماكرون بـ"السترات الصفراء" لم يُشغله عن الدور الفرنسي في أفريقيا. ولكن هل يعني هذا أن فرنسا قادرة على المقاومة هناك؟ حتى الآن، تظهر المؤشرات الأفريقية أن الفرنسيين غير قادرين على وقف الزحف الصيني تحديداً، ويحتاجون إلى شريك غربي، قد يجدونه في الأميركيين الذين يرغبون بوضع حدّ للصينيين في أفريقيا، خصوصاً لجهة تحويل القارة إلى محور لطريق الحرير الصيني. ومع أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في مؤتمر خُصص لطريق الحرير، أواخر الشهر الماضي، حاول إسباغ الطمأنينة على التوسّع الصيني بالقول إن "الجميع يمكنه المشاركة فيه"، إلا أنه لم يطمئن الأميركيين الذين يواجهونه على خلفية الحرب التجارية بين البلدين.
وإذا كان الأميركيون قادرين على التحرّك بحرية أكبر في العالم، فإن فرنسا أصبحت في وضع محدود، يبدأ من محاولتها الحفاظ على مناطق نفوذها في أفريقيا أولاً، ثم محاولة الدفاع عن اتحاد أوروبي موحّد بوجه "طريق الحرير" في أوروبا ثانياً. مع ذلك، يبدو ماكرون في وضعٍ صعبٍ. من جهةٍ، يريد التحرّر من الهيبة الألمانية الاقتصادية، خصوصاً في الخروج بورقة اقتصادية تلبّي طموحه الداخلي، وتُنهي احتجاجات "السترات الصفراء". ومن جهة أخرى، لا يملك الأدوات الكافية للصمود أمام الصينيين في أفريقيا بمعزلٍ عن "الخضوع" للشروط الأميركية في هذه المواجهة.
لا يمكن الحديث حالياً عن "انتهاء الدور الفرنسي في أفريقيا"، غير أنه يمكن الحديث عن أن فرص العودة الفرنسية إلى الواجهة هناك غير واردة في السنوات المقبلة، فالخسائر الاقتصادية للفرنسيين كبيرة للغاية في القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة. عملياً، فرنسا في مرحلة تراجع كبرى في أوروبا وأفريقيا. هو أمر لم تدركه حقيقة مع تراجعها أمام المدّ الصيني. والصحوة التي يقودها ماكرون حالياً لن تعيد فرنسا إلى مواقع القوة، بقدر ما أنها ستؤجل حتمية تراجعها لبضع سنوات.

دلالات

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".