الأردن.. تدابير مواجهة هبّة رمضانية

الأردن.. تدابير مواجهة هبّة رمضانية

04 مايو 2019

في مظاهرة في عمّان ضد رفع الضرائب (6/12/2018/الأناضول)

+ الخط -
على إيقاع سريع في الأردن، وجدت حكومة عمر الرزاز أنها، في ظرفيتها الراهنة، مشابهة لسالفتها حكومة هاني الملقي التي أخرجتها احتجاجات رمضان 2018، فكان لا بدّ من درء الغضب الشعبي، بعدة إجراءات للحماية الاجتماعية، مع سياسات وقرارات داعمة لها من القصر الملكي أيضاً. معركة القدس والموقف الأردني المُصر على تثبيت حق الوصاية الهاشمية، في مواجهة تعنت اسرائيلي وصلفٍ أميركي، تجري مواجهتها عبر سلسلة من المسيرات والفعاليات المؤيدة لموقف الملك عبدالله الثاني. وفي المشهد المحلي، أزمات تتفاعل بطالة وفقراً، وفجوة الثقة تتسع، فكان التحرك سريعاً كي لا يواجه الرزاز اختبار الشارع بعد عام على الاستبشار به مخلّصاً. عام مضى على الحكومة التي لفها جدل كثير في أثناء تشكيلها وبعده، وبيادق الرزاز التي نقلها من مكان إلى آخر قلّما أسعفته، والأزمات المتوالية من كارثة البحر الميت في أكتوبر/ تشرين الأول 2018 إلى سيول عمّان في فبراير/ شباط 2019، مروراً بالتسريبات المستمرة لوثائق التعيينات، لم تطفئ غضبها منصة "حقك تعرف" التي أنشأتها الحكومة لمواجهة الشائعات، ولكن المؤشرات تفيد بأنّ المواجهة مع حقائق الواقع المتعسّر عصية أكثر، وهو ما اعترف به الرئيس الرزاز بأن ثمّة جملة قوى تواجهه، ودائما نجده يدافع عن خياراته، ويتحمل المسؤولية في أكثر من مرة.
في ظلّ الواقع المأزوم محلياً وإقليمياً، لم يخشَ الرزاز التغيير، ورفع لواءه، فطرح مشروع "النهضة" ودولة الإنتاج، داعياً إلى التخلص من الزمن الريعي، ورمى مصطلح تجديد "العقد الاجتماعي" الذي ناغم به القوى الليبرالية والمدنية، ما انعكس سلباً على الحكومة وصورتها لدى القاعدة التقليدية للدولة، فكان التراجع عن ذلك العقد المفقود سريعاً، فعاد الرجل إلى مبدأ الاستثمار باستعادة الثقة بالمؤسسات وتجديدها، مع أن ذلك ليس سهلاً.
ولم يكلّ الرئيس الرزاز عن محاولة اختراقٍ بنى الشباب الآمل فيه خيراً، والنخب التي ترى 
أنها تواجه معه ثقافة الغنيمة والفساد، كما أن شريحةً كبيرة جرى استخدامها مرحلياً "كومبارس" لبعض رجال الدولة من الذين التحقوا بقائمة المفسدين بالوطن، وصحا الشعب معهم على وعود كانت زُلفى. وبالتالي، كان عليه أن يُحدث المراجعات في هيكلة القطاع العام، واستهداف التوفير وتقليص العجز في الموازنة، والتوسع بالمعونة والمساعدات للأسر الفقيرة، وتطوير التعليم، وتخفيف الدين العام، وإقالة كل من ثبت ضعف أدائه. وثمّة نجاحات في ذلك، لكنّ إقناع الشارع المتعجل لإنجازات مباشرة حياتية ليس أمرا سهلا.
غير أنّ الرزاز، الخبير والمخطط الذي لقي دعماً كبيراً من البنك الدولي لبرنامجه الاقتصادي، يخوض اليوم معركة قد تعيده إلى باب الشعب، عن طريق تعزيز خطوته الكبيرة بحسم قضية "فساد الدخان" التي تجري فصول محاكمتها، كما أنه دفع بقضايا فساد جديدة جديدها "المكسّرات"، وهو متمسّك بتنفيذ توصيات ديوان المحاسبة، ليقدم عربون ثقةٍ لمن كانوا يرونه، وما زالوا، عنوان ثقة وتحديث، ورجلاً نظيف اليد. ولكن هذه الصفات ما كانت لتُغيّب وعي الرجل بأهمية تلطيف الواقع، ومعالجة الخلل الاقتصادي الذي ضرب المجتمع بفعل السياسات الاقتصادية الموجعة، وظروف المرحلة، فبادرت الحكومة إلى حزمة إجراءات اقتصادية معيشية لتخفيف الوضع المتعسر على الأسر قبيل شهر رمضان، ومنها تخفيض أسعار قائمة من السلع الأساسية، والطلب من البنوك، أو توجيهها، إلى عدم اقتطاع الأقساط الشهرية على المواطنين في رمضان، ورافقت ذلك خطة إعلامية عاجلة لإنقاذ مساعي الحكومة، وتحسين صورتها بالحوار المباشر مع الفاعلين في الإعلام، ودفع الوزراء إلى الميدان الذي يتقن الرزاز مفاصل التواصل المباشر معه بلغةٍ يجيدها أكثر من بعض فريقه.
يحدث هذا كله قبيل شهر رمضان، وقبيل بدء الصيف، في محاولة لقطع الطريق على عودة الحراك الشعبي بكثافة، وهو حراكٌ بات أكثر تعقيداً وصار مطلبياً أكثر، وأقل تأثيراً ما لم تهبه الأقدار أوراق ضغط وصعود، تعيده إلى ما كان عليه قبل عام، وتظل إيجابية الحالة والعلاقة بين الحكومة والحركة الإسلامية، الحزب العريض، سبباً في ضعف الحراك.
وفي الرهان الحكومي، أن جملة الإجراءات التلطيفية بمحاولة تخفيف وطأة الواقع الموجع اقتصاديا قد تسهم في تخفيف حدّة الصيف والغضب الشعبي، ولكن الحكومة لديها تحدياتٌ كبرى، تكمن بعدم ثقة الجمهور بمؤشرات النمو التي تقدّمها، فهي أمام معضلة الإقناع الجماهيري، وعليها الاستثمار بالفرص الإقليمية التي يمكنها أن تجلب الاستثمار الذي يجد في الأردن بيئة آمنة ومستقرة سياسياً، لكنها طاردة في مؤشر الثقة وحجم الضرائب وأسعار الكهرباء، ما يحول دون تنفيذ الكثير من الوعود المقطوعة.
تظل سجايا الرئيس الرزاز الطيبة خاصةً به، لكنه يطوّعها لخدمة مشروعه، ودعوته المتجدّدة
 أخيرا إلى ضرب الفساد، والتي جسّدتها حكومته في قضية المكسّرات الفاسدة، والتي قد تكون دعوة غير مباشرة للحراك بمنحه مزيدا من الوقت لتحقيق ما وعد، وهو أمر يتفق كثيرون عليه في سبيل هذا المطلب الوطني الذي دعمه الملك عبدالله الثاني، حين نادى بوجوب "كسر ظهر الفساد".
وفي محاولة التمهيد لعبور آمنٍ للحكومة، جرت جملة تغييرات في الديوان الملكي، ودائرة المخابرات، لفتح الطريق أمام الحكومة للعمل بأريحية. ولعل في رسالة الملك إلى مدير المخابرات الجديد ما يشير إلى اعتراف بأوجه الخلل التي أشار إليها تقريرٌ سرّب قبل أسبوعين، وأشار إلى عمل جهات سيادية وقادة محليين على زعزعة أمن الوطن، وإضعاف الحكومة، فجاءت هذه الرسالة بضرورة تعزيز الثقة بالمؤسسة الأمنية الأهم، ومراجعة واقعها للحفاظ على دورها المهني، وهو مبدأ أكّدته أوراق الملك النقاشية.
يبقى القول إنّ في الأجندة الحكومية والأدراج المغلقة أوراقا يمكن الاستثمار فيها لاستعادة الثقة، وتقليل الاحتقان، ودفع الناس إلى دعم الأهداف الكبرى، بيد أن معضلة أي حكومة أردنية تكمن في مخاطر نمو البطالة بين المتعلمين، والتي تشكل هاجساً كبيراً لعقل الدولة الذي يخشى أن ينمو التطرف على أكتاف البطالة والوعود التي طال انتظارها.
الرزاز الذي رحب به الشارع القومي، باعتباره خريج أحد بيوته المؤسسة له، وهادنته حركة الإخوان المسلمين مرحلياً، ووفّر له الملك الدعم بإجراء تغييرات قيادية مهمة، يبدو اليوم أمام اختبار الجدية والعمل والصرامة في محاربة الترهل والفساد واستعادة الثقة، ولكنه في ذلك كله يواجه تركة صعبة. وفي ظل نمو حالات البث عبر شبكات التواصل الاجتماعي لبعض المعارضين من الخارج، واستيعاب بعضها، قبيل شهر رمضان، فإن في هاجس الحكومة الأردنية وحدسها، مواجهة الهبة المتوقعة، وهذا لا يكون بالاستجابة المتسرعة لمطالب الشارع، بل التقدّم عليه، في التدخل الفاعل بتغيير القناعات السائدة بحسم حرب الفساد وخفض البطالة وتقديم وجبة إصلاح سياسي تسد رمق المطالبين به منذ زمن.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.