هذه النزعةُ اليمينيّة المتصاعدة

هذه النزعةُ اليمينيّة المتصاعدة

30 مايو 2019
+ الخط -
تبدو الديمقراطية الليبرالية فكرةً وآليةً لإدارة الصراع الاجتماعي في مأزق حقيقي. ولا يعود ذلك، فقط، إلى تراجع قدراتها في ضبط هذه الصراع، وتوجيه إيقاعاته، بل يرتبط، أيضا، بعجز مؤسساتها المختلفة عن التكيف مع التطور المتسارع للمجتمعات الذي أفرز أنماطا غير معهودة في الصراع الاجتماعي، ولا سيما في ما له صلة بقضايا الهوية. ومن التبدّيات الدالة لهذا المأزق صعود أحزاب اليمين المتطرّف وتنظيماته في الغرب، وتمدّدُها الهادئ داخل مجتمعاته، وقدرتها المتنامية على إيجاد ديناميات موازيةٍ مُربِكةٍ، تسائل البديهيات الكبرى التي قامت عليها هذه الديمقراطية، وتغذّت عليها طوال القرنين المنصرمين.
يأخذ هذا المأزق أبعادا أخرى، مع اتساع رقعته في اتجاه جغرافيات سياسية وثقافية مغايرة، يتحوّل فيها اليمين المتطرّف، شيئا فشيئا، إلى جزءٍ من معادلة القوة والنفوذ، ما يشكّل تحدّيا كبيرا للمقتربات الكلاسيكية لعلم الاجتماع السياسي. وفي الإمكان القول إن فوزَ حزب بهاراتيا جاناتا، القومي الهندوسي، في الانتخابات التشريعية أخيرا في الهند، وتقدّمَ اليمين، بتشكيلاته المعتدلة والشعبوية، في الانتخابات الأوروبية الأسبوع الماضي، وفوزَ اليمين المحافظ في أستراليا، ونجاحَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أن يُحوّل خطابه السياسي إلى مورد تعبئةٍ بالنسبة لحركات كثيرة من اليمين المتطرّف في الغرب، يوحي ذلك كله بأن الأمر يتعلق بارتجاجاتٍ عميقةٍ تعرفها أنظمة إنتاج الخطاب السياسي وقنواته.
هناك تحول هادئ داخل معظم المجتمعات الغربية بشأن خطاب الهوية الذي يُفترض أنه ينبني على مبادئ حقوق الإنسان والمساواة والتعايش، وهو تحوّل تتضح محاوره العريضة، حين ينتظم ضمن خطاب هوياتي مضاد، يغذّي مشاعر الكراهية والعنصرية تجاه المهاجرين والأقليات المختلفة.
لنتأمل جيدا المشهد في بريطانيا؛ ماذا يعني تصدر حزب "بريكست" اليميني نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي؟ ألا يُربك ذلك الانطباعَ الذي روجته وسائلُ إعلام واستطلاعاتُ رأيٍ، أن تصويتَ نصف الناخبين البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، في استفتاء 2016، كان نتيجة التضليل الذي تعرّض له هؤلاء؟ لم يعد مقنعا الاستمرارُ في تبرير نتائج هذا الاستفتاء بهذا ''التضليل''، في ضوء ما حملته نتائج الاقتراع الأوروبي أخيرا في بريطانيا.
يَصعب الارتكانُ إلى سببٍ دون غيره، لتفسير هذه النزعة اليمينية المتصاعدة التي باتت تؤطر الخيارات السياسية والاجتماعية لقطاع واسع من الناخبين في الغرب. وعلى الرغم من تباين الأسباب خلف ذلك، إلا أنه يمكن اختزالها في إخفاق الديمقراطية الليبرالية في حل التناقض البنيوي بين مبادئ المساواة وحقوق الإنسان التي تنهض عليها وما تُفرزه هذه المبادئ، في تنزيلاتها المجتمعية المختلفة، من خيارات غير ديمقراطية بالمرّة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن هذه الديمقراطية لم تستخلص جيدا دروسَ تجربتها التاريخية المعلومة مع النازية والفاشية إبّان ثلاثينيات القرن الفائت وأربعينياته.
هناك عجز بيّن عن اجتراح حلولٍ تعيد تركيب هذا التناقض، خصوصا في ظل موجة النزوح غير المسبوقة للاجئين الهاربين من حروب الشرق الأوسط ونزاعاته، وهي الموجة التي لم تواكبها تدابيرُ عمليةٌ للحد من تداعياتها الثقافية والسياسية على المدى البعيد. وقد ساهم ذلك، بكل تأكيد، في تغذية مشاعر العداء والكراهية تجاه المهاجرين والأجانب والأقليات، ويزداد الأمر دلالةً حين تصدر هذه المشاعر عن فئات وشرائح الطبقة الوسطى المعروفة، في الغرب، بنزوعها نحو قيم الحرية والمساواة والديمقراطية.
وإذا كان صحيحا أن الانكماشَ الاقتصادي، وتراجع مستوى الرفاه الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وفقدانَ هذه الطبقة بعض مكاسبها نتيجة صعود الرأسمالية المتوحشة، قد ساهم في تشكيل بيئةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ لصعود اليمين، بتشكيلاته المحافظة والشعبوية، إلا أن عوامل أخرى أكثر تعقيدا بسبب ارتباطها العضوي بمعادلة توزيع الثروة بين بلدان الشمال والجنوب، ودورِ شبكاتِ المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الغربية العابرة للحدود في الحيلولة دون تشكل دينامياتٍ جديدة في بلدان الجنوب، تفضي إلى إعادة توزيع هذه الثروة، بما يستجيب لتطلعات شعوبها، وبالتالي الحد من تدفق المهاجرين على الغرب، بحثا عن حقوقٍ حُرموا منها في بلدانهم الأصلية.