كردستان العراق في عهدة الرئاسة الجديدة

كردستان العراق في عهدة الرئاسة الجديدة

30 مايو 2019
+ الخط -
كان إدريس البارزاني رفقة شقيقه مسعود يشدّان من عضد أبيهما، القائد الملحميّ الكردي، ملّا مصطفى البارزاني، لتحولَ يد الموت دون تسلّم الابن الأكبر مهام الأب، وفق ما كان متوقّعاً، بيد أن ما حصل خلال طريق طويل وشاق أفضى، في المحصلة، ليصار إلى انتخاب نيجرفان إدريس البارزاني رئيساً لإقليم كردستان العراق، وفاقاً لترتيباتٍ اقتضتها اللعبة السياسية في الإقليم المعطوفة على تأييد الرئيس السابق، مسعود البارزاني، وحصول حزبهما، الديمقراطي الكردستاني، على المركز الأول في انتخابات الإقليم التشريعية. قُبيل الانتخابات التي خاضتها أحزاب الإقليم، انفرط عقد "التحالف الكردستاني" الذي جمع الديمقراطي الكردستاني بالاتحاد الوطني الكردستاني، طوال السنوات التي أعقبت احتلال العراق، وفق اتفاق استراتيجي رسم ملامحه الرئيسان، مسعود البارزاني وجلال طالباني. كان لنتائج استفتاء الإقليم على الاستقلال الدور البليغ في انفصام عرى الوئام والتوافق بين الحزبين التاريخيين. ومن شقوق الانهيار اللاحق، برز اسم نيجرفان البارزاني مجدّداً على اعتباره أحد القائمين على تهدئة الأجواء المشحونة بين أربيل من جهة وبغداد وطهران وأنقرة في الجهة المقابلة.
تولّى البارزاني الابن مقاليد رئاسة الحكومة منذ العام 1999، وانقطع توليه المديد المنصب التنفيذي هذا فترة قصيرة، فتولّى خلالها برهم صالح رئاسة الوزراء. وفي كلّ الأحوال، حقّق البارزاني نجاحاتٍ على مستويات التنمية والعمران، وتلطيف العلاقات المشحونة مع العواصم الإقليمية، وهي التي لم تكن على ما يرام. كانت هندسة تلك العلاقة مبنيّةً على أسسٍ براغماتيةٍ، قوامها المنفعة المالية والتجارية، واستبعاد الخطاب القومي الكردي الذي بات مغيّباً، بحكم تموضع الإقليم الجيوسياسي، وتعقيدات المشهد الكردي في إيران وتركيا. وإن كان ثمّة ملاحظة يمكن إبداؤها هنا، فهي وجود "كيمياء" بين البارزانيين، أفضت إلى شكلٍ من تقاسم الأدوار بين الرئيس/ العم مسعود البارزاني، ورئيس الحكومة/ ابن الأخ، إذ اضطلع الأوّل بمهام فوق 
حكومية، فأدار الملفّات الكردستانية، وفق ما تقتضي مصلحة الإقليم، وما تفرضه الفكرة القومية الكردية التي لا تقيم كبير اعتبارٍ للحكومات والأنظمة والحدود الفاصلة، في حين أن الثاني شدّد على مسائل التنمية والاقتصاد والعمران التي لا تقبل تخليطا كثيرا مع السياسة بمعناها القومي، ربما كان هذا المزيج بين عمل ومنصبي الرئيسين أحد أسباب محافظة العائلة والحزب على وضعهما المميز داخل حلقة الأحزاب الكردستانية التي انتابتها حالاتٌ من الاضطرابات والانقسامات الداخلية.
جاء فوز البارزاني بمنصب رئاسة الإقليم خافتاً، جرّاء تغيّب كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني عن جلسة التصويت، إذ كان من المقرّر أن تدلي كتلة الاتحاد بصوتها لصالحه. التغيّب علله المنسحبون بتهرّب الديمقراطي الكردستاني من بعض التزاماته التي اتفقا عليها لاحقا، الأمر الذي بدّد آفاق الوئام بين الحزبين مجدّداً، وخفّض نسبة التصويت لصالح المرشّح البارزاني إلى 68 صوتاً من مجموع الحاضرين الـ81 من أصل 111 نائباً.
قد يواجه الرئيس الجديد، في الأفق القريب، ثلاثة ملفّات رئيسية، وفي مستويات مختلفة: أول الملفات كردستاني داخليّ، وهو الاحتفاظ بالوحدة الإدارية للإقليم، ذلك أن الإقليم يواجه مشكلة صامتة منذ اندلاع الحرب الأهلية الكردية (1994ـ 1996)، وهي تركّز نفوذ الحزبين الرئيسيين في مناطق محدّدة، في السليمانية وأربيل، ووجود قوتي بشمركة لا تأتمران لجهة واحدة. ومن دون الخوض في جذر الانقسام الكردي هذا، يمكن التعويل على براغماتية البارزاني في تقليص هامش المواجهة السياسية والإدارية المتوقّعة أو تأجيله، حال حصول انسداد سياسي بين الأقطاب السياسية الكردستانية. ولعل ما يخفّف من حدّة المشكلات أن طبيعة الخلافات الأخيرة مرتبطة بمسألة المناصب الرئيسية داخل الإقليم وفي كركوك، ما يعني أن الهوّة قد تُجسّر من خلال لعبة التنازلات التي يجيدها الطرفان.
ثاني الملفّات المنتظرة كرديٌّ صميم، مرتبطٌ بإيلاء الاهتمام بالمسألة الكردية في العراق، أي 
حل معضلة المناطق المتنازع عليها، ومن ضمنها موضوعة كركوك، وكذا توسيع حقل الاهتمام بالمسألة الكردية في تركيا وسورية، على اعتبارهما مرتبطتين بسياسة الإقليم الخارجية. كما أنّ المسألة الكردية الأوسع تقع في سهم رئيس الإقليم أكثر من اعتبارها مسألةً تخصّ رئيس الحكومة، والذي قد يبدو تقنياً أكثر منه راسماً خطوط السياسة القومية ومشاغلها التي لا تنضب، وقد يسهّل الأمر في هذا المجال التكليف المتوقّع لمسرور البارزاني، نجل الرئيس الأسبق، بتشكيل الحكومة المقبلة، ما يعني إرساء حالة الوفاق داخل السلطة التنفيذية، وتوزيع الأدوار، وفق ما كانت عليه الأمور في الحكومة السابقة.
يشكل الملف العراقي والإقليمي ثالث الملّفات التي ستوضع على مكتب الرئيس، إذ يمرّ السير في طريق تطبيع العلاقة مع بغداد عبر تنشيط الحركة السياسية بين الإقليم والمركز، والتي يبدو أن رئيس العراق الكردي في بغداد، برهم صالح، لم يوفّق، حتى اللحظة، في لعب الدور المنوط به، لأسبابٍ متصلةٍ بضعفه المتأتي من عدم رضا أربيل عنه، ومن غياب المدد الكردستاني لموقعه السياديّ. أمّا في المستوى الإقليمي، فقد تلقي الاضطرابات الحاصلة في المحيط بظلالها على اقتصاد الإقليم ومواقفه السياسية المباشرة، في ظل حالة التناقض بين الأفرقاء في المنطقة، أميركا وإيران وتركيا. لذا قد يعمد الإقليم إلى انتهاج سياسة الحياد، أو الالتصاق أكثر بسياسة بغداد، والتنسيق مع الحكومة العراقية.
ليست مهمّة الرئيس الجديد سهلة، لكنها تؤسّس لما سيكونه إقليم كردستان العراق في السنوات المقبلة، وإذا كان من سبيل لوضع عنوان للرئاسة الجديدة، فإنه سيكون معنوناً باسم المصالحات والإصلاح، وإلّا ستبقى المشكلات في الإقليم مخبأة تحت السجادة.

دلالات