على هامش ورشة البحرين.. الصفقة تمت ويظل الثمن

على هامش ورشة البحرين.. الصفقة تمت ويظل الثمن

29 مايو 2019
+ الخط -
نشر أخيراً أن مؤتمراً اقتصادياً سوف يعقد في المنامة، يومي 25 و26 يونيو/ حزيران المقبل، يشارك فيه وزراء مال واقتصاد ورجال أعمال ومستثمرون، برعاية الولايات المتحده الأميركية. وجاء في رسالة الدعوة التي وجهها وزير الخزانة الأميركي إلى المدعوين أن "ورشة الازدهار الاقتصادي" هذه هي فرصة لتقديم أفكار "للمستقبل الاقتصادي الفلسطيني". وسوف تضم مجموعة مختارة من رجال الأعمال العرب والدوليين لدراسة الاستراتيجيات القريبة والبعيدة المدى للاستثمار والفرص التي يمكن إنجازها بموجب "اتفاقية سلام" بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وسوف تقدّم الورشة فرصة للحديث عن إمكانية إطلاق فرص النمو الاقتصادي، وتعزيز رأس المال البشري وتطوير مناخ استثماري "للفلسطينيين وللشرق الأوسط بشكل عام". وقد أعلنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية رفضها المشاركة في الورشة، وأوضحت، في بيان رسمي، أنها لم تفوّض أحداً بالحديث نيابة عنها، وهي الوحيدة المؤهلة لتمثيل الشعب الفلسطيني. وفي المقابل، سارع مسؤولون ماليون في كلٍ من السعودية والإمارات إلى الإعلان عن مشاركتهم، ولا تزال الأخبار تتوارد حول الجهات والأشخاص الذين سوف يشاركون في الورشة.
واضحٌ من نص رسالة الدعوة الرسمية أن الموضوع يتعلق بمشروع تنمية الاقتصاد الفلسطيني، وإيجاد مناخ استثماري للفلسطينيين، مع إشارة غامضةٍ إلى ربط هذه التنمية الاقتصادية بصفقة سياسية تأخذ شكل "اتفاقية سلام"، إلّا أنه يبدو، من السياق، أن هذه الورشة الاقتصادية ما هي إلا الحديث عن "ثمن الصفقة"، ليس إلا، فقد أعلن مهندس الصفقة، جاريد كوشنر، أن الورشة "خطة عمل Business جيدة جداً"، إذ إن العناصر الأساسية للصفقة كان قد تمّ تقريرها.
ما تسمّى "صفقة القرن" تمّ تنفيذها في الواقع في جوانبها الأهم، فالقضية الفلسطينية ليست إلا قضية اللاجئين، أو الشعب المهجّر في أصقاع الأرض أو الشعب الواقع تحت الاحتلال أو 
الشعب الذي يعيش في مجتمع التمييز العنصري (الأبارتايد) داخل إسرائيل، ولا نجد فلسطينيا خارج هذه السياقات. إنها قضية الشعب الفلسطيني ككل، لكن الصفقة تجاوزت هذا الهمّ الأكبر، واقتصرت على فلسطينيي الاحتلال دون فلسطينيي الشتات ودون فلسطينيي الأبارتايد، فقد أعلن الرئيس الأميركي، ترامب، ومحاميه ومستشاره/ صهره، كوشنر، أن بقاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) هو إبقاء على المشكلة الفلسطينية، وبالتالي يجب حلّ هذه الوكالة وتصفيتها، ونقل مهامها إلى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، لكي تنتهي من قضية اللاجئين. كما أنه يجب إعادة تعريف اللاجئ بحذف الشق الذي يجعل التعريف شاملاً: "ذريّة اللاجئ"، وبالتالي ينخفض عدد اللاجئين الفلسطينيين في سجلات "أونروا" من حوالي خمسة ملايين ونصف إلى بضعة آلاف. وأخيراً، ألغت إدارة الرئيس ترامب المعونة المالية التي تقدّمها بلاده إلى وكالة أونروا، كما تقوم بحملة تحريض ضد الدول التي تقدّم معونات إلى الوكالة. وهكذا يتم العمل على تجفيف مصادر حياة وكالة "أونروا"، تمهيداً لشطبها وقضية اللاجئين الفلسطينيين.
وإذ اعترف الرئيس الأميركي بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال، وبدأت إدارته في تغيير وصف الأراضي الفلسطينية، ولم تعد تطلق عليها وصف "الأراضي المحتلة"، ففي ذلك توطئة للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات، بكل ما تمثل هذه من منشآت ومناطق أمنية محيطة بها، ومناطق مخصصة لتوسعها، وطرق التفافية لخدمتها. وإذا أخذنا في الاعتبار القانون الأساس (إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي)، والذي صدر في 19/7/2018، فيبدو ترجمةً عملية لتلك الصفقة، إذ أعلن القانون أن كل فلسطين هي الوطن التاريخي لـ"الشعب اليهودي"، ويمارس وحده فيها حق تقرير المصير، وأصبح الاستيطان ليس جريمة حرب، بل واجباً وطنياً.

وتبعا لما سبق، إذا شطبت قضيتا اللاجئين والقدس من ثوابت القضية الفلسطينية، ماذا يبقى منها؟ ومن هنا، تأتي ورشة البحرين للحديث عن "الثمن" الواجب دفعه، وتحديد الطرف الذي سوف يدفعه. ولم تكن "صفقة القرن" لتولد، لولا تواطؤ بعض القيادات الخليجية، والبدء بالغزل مع الصهيونية والتطبيع معها، لتثبيت مكانها في بلادها في مقابل التنازل عن فلسطين التي ستكون الثمن الذي تدفعه هذه القيادات لإنقاذ مناصبها. ألم يعترف الرئيس ترامب بصراحة، وفي لقاء عام، بأنه اتصل بملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، وخاطبه: "يا ملك، نحن نحميك، وبالتالي عليك أن تدفع مقابل حمايتنا لكم". وفي مقام آخر، قال نحن نحمي بعض قادة الخليج، وبدون حمايتنا لن يمكثوا في مناصبهم أكثر من أسبوعين. وفي وسط هذه "المزايدات"، وجدت الإدارة الأميركية تربة صالحة لابتزاز بعض القيادات العربية في الخليج. ومن هنا، أصبح الوقت جاهزاً لتحديد ثمن الصفقة. طبعاً سوف تعلن هذه القيادات تمسّكها بفلسطين والقدس والحقوق الفلسطينية، إلا أن ذلك لا يغيّر من الواقع شيئاً.
وفي هذه المناسبة، تحضرني قصة للمسرحي الأيرلندي برنارد شو، ورد فيها أنه في إحدى الحفلات، جلست بجانبه فتاة جميلة، كان تشعر بسعادة غامرة، لأنها تجلس إلى جانب شخصية مرموقة، وبعد أن تجاذبا أطراف الحديث، قال لها: هل تقبلين أن تمضي ليلة معي مقابل مليون جنيه، فأجابت بالقبول فوراً. وبعد فترة قصيرة، سألها إن كان يمكن أن تقبل بمائة جنيه، بدلاً من مليون، فانتفضت الفتاة وصاحت به: من تفكر أن أكون حتى تعرض عليّ هذا المبلغ. فأجابها بلسانه الحاد: نحن الآن متفقون على من أنت، الخلاف الآن فقط على الثمن. وأجد أنه في الإمكان إسقاط هذه الحكاية على المساومة بين الإدارة الأميركية وبعض القيادات الخليجية لتحديد الثمن، فقد قبلت هذه القيادات أن تقوم بعملية تطبيع مع الصهيونية، أعني الصهيونية إياها، وتتنازل عن كل فلسطين وكل مقدساتها، وأن تخضع لشروط الإدارة الأميركية وابتزازها لقاء حمايتها من مخاوف مصطنعة أو حقيقية، وتجتمع الآن في البحرين، لتحديد ثمن الصفقة. وترد في الأخبار أرقام واجبٌ أو متوقع اقتضاؤها من تلك القيادات التي رهنت مستقبلها في يد راعٍ للبقر، يساومها على مقدساتها ووطنها وشعبها، بعد أن عرف من تكون هذه الأنظمة.
وعلى الرغم من أنه من الصعب جداً الوثوق بالسياسات الأميركية، لا سيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلا أنه واستثناءً من هذا الاعتقاد (ولو على سبيل الجدل)، واعتناقاً لحسن النية، يمكن القول إنه لو كان جاريد كوشنر وجيسون غرينبلات يحيطان علماً بما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لطرحا السؤال الأوّلي: هل يمكن تحقيق الازدهار الاقتصادي من دون حلٍّ سياسي؟ ولنفترض أن ذلك ممكن، فلا بدّ من تفكيكك "الازدهار الاقتصادي"، لنرى من هو المستفيد من هذين الازدهار والاستثمار.
يستحوذ أكثر من ستمائة ألف مستوطن إسرائيلي في الأراضي الفلسطينية على مصادر المياه، فقد بنت سلطة الاحتلال جدار الفصل العنصري على أهم مخزونين من مصادر المياه في 
الضفة الغربية، وأصبح نصيب الفرد الفلسطيني 110 أمتار مكعبة من الماء مقابل أكثر من 800 متر مكعب للمستوطن. ويسيطر المستوطنون على مناطق الغور التي هي سلّة الغذاء الرئيسية، وصادرت سلطة الحاكم العسكري مصادر الطاقة في منطقة رنتيس، حيث بنت إسرائيل 263 متراً من الجدار حول الحوض الذي تم اكتشاف نفط فيه، ولا تزال تسحب المخزون النفطي منه، وحاصرت إسرائيل مصادر الغاز التي تمّ اكتشافها في البحر الإقليمي لقطاع غزة، وفرضت عليها الحصار والدمار منذ تمّ اكتشاف مخزون الغاز، وتمّ ترحيل شركة بريتش غاز، وهي التي سمحت لها إسرائيل ابتداءً بالتنقيب عن الغاز في 1999.
وليست المستوطنات التي أقيمت في الأراضي الفلسطينية المحتلة جريمة حرب وحسب، بل إنها كذلك قطعت أوصال الأراضي الفلسطينية، لتحول دون تواصلها. فكيف يتم تحقيق الازدهار الاقتصادي في منطقة نابلس مثلاً، والتي تقطعها عن قلقيلية ورام الله وجنين عشرات المستوطنات؟ ولكي يسمح بالتواصل، يجب أن تستفيد المستوطنات من هذا الازدهار الاقتصادي أولاً. وإذا كانت سلطة الاحتلال هي التي تسيطر على الحدود والمعابر والجمارك، فإن هذا يعني بالضرورة أن الازدهار الاقتصادي سيكون دائماً بيد الاحتلال، وتحت رحمته ورضاه، كما أنه يعني أن سلطة الاحتلال سوف تسهل تخليص البضائع والآلات والمنتجات المتعلقة بالمستوطنين، وتعرقل ما هو خاص بالفلسطينيين، أي أن المستوطنين سوف يصبحون شركاء في عملية الازدهار الاقتصادي، بعد أن أقرّت محكمة العدل العليا الإسرائيلية أن المستوطنين هم من السكان المحليين.
من المفهوم أن "الازدهار الاقتصادي" لا يقوم إلا على رساميل يتم استثمارها في مشاريع إنتاجية، فمن أين ستأتي هذه الرساميل؟ الواضح أن جزءاً كبيراً سوف يأتي (أو هكذا يتوقع الخبراء) من الدول العربية، ولا سيما النفطية. وهذا يعني بالضرورة تطبيع العلاقات العربية (لا سيما النفطية) مع إسرائيل، لكي تضمن حماية استثماراتها. وهنا نصل إلى بيت القصيد، وهو الوصول إلى حالة من التطبيع الشامل بين إسرائيل ودول الخليج النفطية، أي إنجاز "صفقة القرن" بثمن مدفوع من بيع فلسطين، ومن الأموال العربية على شكل استثماراتٍ في أراضٍ ومناطق تمثلها إسرائيل، وتسيطر فيها على معابرها ومصادرها وقوانينها. قد يستفيد الفلسطينيون من هذه الاستثمارات، إلا أن فائدتهم ستكون على شكل "فتات المائدة".
وفي الختام، ما هي السلطة العامة التي سوف تتعامل مع المستثمرين، وترتب معهم تدفق أموالهم واسترجاع أرباحهم، ولمن سوف يدفع المستثمرون ضرائبهم، وما هي الجهة الرسمية التي سوف تمنحهم الإعفاءات لإدخال الآلات وعناصر الإنتاج أو تصدير المنتجات؟ وإذا ثار خلاف بين المستثمر والجهة الرسمية، فأي قانونٍ سوف يحكم الخلاف، وأي جهةٍ قضائيةٍ سوف تكلف بحلّ النزاعات؟ وإذا صدر حكم قضائي لصالح مستثمر ضد مستثمر آخر، فما هي الجهة الرسمية التي سوف تقوم بتنفيذ الحكم القضائي؟ تثبت هذه الأسئلة أن ازدهاراً اقتصادياً في غياب حلّ سياسي يتناول الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني هو وصفة سريعة لازدهار سلطة الاحتلال، وازدهار المستوطنين، وازدهار مؤسسات الفساد.
B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
أنيس فوزي قاسم

خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين

أنيس فوزي قاسم